بقلم : ناصر الظاهري
اليوم تنقضي الأربعون، مما تعدون، كيف ركضت؟ كيف احترقت؟ لا تسألوا.. عمري هنا من عمر هذه الشجرة التي زرعتها في مكان قصيّ من المدرسة في يوم مغبر، كان الخميس نهاية اليوم الدراسي، ولي في وظيفة حارس المدرسة شهر إلا قليلاً، كنت لا أعرف اسمها، وأحضرتها من عمال زراعة الشوارع، كانت أشبه بعود ذاو، وأتذكر حين فسلتها في ذاك المكان الذي ظل يتمدد، ويتمدد، حتى احتوى شجرة الحور، هكذا عرفت اسمها من معلمة لبنانية كانت تُدرّس الأطفال اللغة الفرنسية، جاءت مثل نسمة تلك الشجرة، وراحت برائحتها، لا أتذكر الكثير من أسماء المدرسين والمدرسات، عدا المديرات، لكن صور بعضهم ما زالت في الرأس، وبعضهم الآخر يتراءى لي في الأحلام أو تذكرني بهم أشياء عابرة في الحياة.
كبرت المدرسة على الشجرة، وظلت تزحف، وزادت الفصول، وزاد «صريخ» التلاميذ فيها، اليوم الشجرة تكاد تنتصف المدرسة، وأخذت في اتساعها، وتمركزت في مكانها، وغدت أوراقها وارفة الظل، ورائحة الاخضرار، وحدنا أنا الحارس، وهذه الشجرة نتذكر طلبة هذه المدرسة، بعضهم تدرج من الروضة حتى غادرنا إلى الجامعة، بعضهم أكمل سنوات قليلة، ثم رحل فجأة، ربما في بلد آخر، ربما رجع إلى بلده، ربما هاجر مع أهله إلى البلاد الباردة، ربما ضاقت الدنيا بأبيه، وأرسله لمدرسة أرخص أو تحجبت أمه فجأة، وأدركت أن مدرسته هذه فيها شيء من التبشير، لقد شاهدنا، أنا وهذه الشجرة، كيف ظلت شوارب الطلبة تطرّ، وتخضرّ، وكيف تمردت الطالبات على القميص الأبيض المدرسي، كيف كانوا يلعبون، ويتقافزون، ويتشاجرون، وكيف غدوا مع تقدم العمر أكثر وداً، وألفة، وكثيراً ما يتناقشون.
أربعون عاماً.. والأولاد يكبرون، ويذهبون، وآخرون يأتون، تبدلت الدنيا، وأنا أمام هذه البوابة التي كلما ذهب لونها، دهنت بعد إصرار، ومماطلات، عيناي لم تغيبا عن الداخلين والخارجين، وأكاد أميز الجميع، ولي حواريات مع النفس بشأنهم، وجوههم، وروائحهم، وطباعهم وصفاتهم وحتى نظراتهم، مرات يمر بي بعض الطلبة بسياراتهم اللامعة، وأكاد لا أتعرف عليهم إلا بصعوبة، لقد خطّت لحاهم، وأبيض شعر بعضهم، آخرون يجلبون أبناءهم وأحفادهم لمدرستهم القديمة، البنات بعضهن يأتي لي في رمضان بأواني أكل، وهدايا وملابس العيد، ونقود، أقبل منهن، ولكني لا أستبين ملامحهن، البنات يتبدلن، ويسمن، وتعّرض وجوههن فور خروجهن من المدرسة.
اليوم سأغادر المدرسة.. والبوابة المدهونة، وعالمي الصغير الذي عشته أربعين، غداً.. سيكون يومي بلا ضجيج طلبة أحبهم، وبلا مساكنة تلك الشجرة التي ربيتها كبنت غالية!