بقلم - ناصر الظاهري
لعل من الأمور الممتعة، والتي قد لا نعرفها أو لا نسعى إليها أو نتجنبها في أسفارنا المتعددة، مشاهدة الأمكنة البكر لمهد النشوء والحضارات، مواطن السكان الأصليين، البدائيين الذين ما زالوا يعيشون وقتهم الحاضر بمعطيات ومكتسبات عهودهم القديمة، مثل هؤلاء موجودون في أميركا اللاتينية وآسيا حيث يعيشون في الغابات أو الكهوف أو ينزوون في قرية بعيدة نائية لا تصل إليها المواصلات، ولا يعرفون الاتصالات، بعض من هؤلاء السكان الأصليين أبيدوا عبر التاريخ على أيدي المستعمر الجديد، ومن بقي منهم اليوم مدجنون، لكنهم ما زالوا يحتفظون بموروثاتهم وتقاليدهم وعاداتهم التي يعرضونها على السياح من بقاع العالم، مثلما هو الحاصل مع الهنود الحُمر في أميركا، وسكان أستراليا القدماء «الأبورجيون».
وخلال أسفاري كنت أزور مثل هؤلاء السكان، للتعرف على أماكنهم البكر والمشاعة، والتمتع في معرفة تفاصيل يومهم، وطريقة أكلهم ونوعية شربهم، ألعابهم، وعاداتهم الاجتماعية، وطبيعة سحنتهم، وكيف ينظرون للآخر الغريب، من تلك الزيارات كانت واحدة لغابات اندونيسيا، حيث يقبع بعض من السكان الأصليين في أدغالها، قطعت للوصول لهم خمس ساعات في السيارة، ومشيت أربعة كيلو مترات وسط الغابات، مع عبور جسور من الخيزران والأخشاب المعلقة، لكن كل ذلك هان حين وصلت لبقية من سكان أندونيسيا الأصليين «كِينكس» أو «بادوي»، واللفظة من العربية «بدو» في منطقة «بانتن» على ارتفاع ستمائة متر، يبلغون فقط 11 ألف نسمة، حفاة يأتزرون بإزار وقميص وربطة على الرأس تشبه المْصَرّ أو «الحمدانية» عندنا، ويتسلحون بسكاكين وأدوات حديدية أقرب للخناجر والسيوف، يعيشون في 62 قرية متناثرة، في بيوت مصنوعة من الخيزران، يعملون في الفلاحة، منعزلون، وينقسمون لقسمين «كِينكس الداخل، والخارج» حيث تفصل بينهم حدود، فالذين اختاروا الخارج أو الخروج من الغابة وهؤلاء يمثلون أقلية، ويعيشون في ثلاث قرى، ويرتدون الأبيض، أما «كِينكس» الداخل فيسكنون داخل الغابة في 59 قرية، ويرتدون الأسود، ولكل عائلة بيت خاص يسمى بيت الرز، وهو منعزل، وفي أعلى الجبل يحفظون فيه محصول الرز، ويكون بعيداً ومؤمناً في حال الحريق أو أي كارثة طبيعية، لا يعرفون الكهرباء ولا التعليم ولا الطبابة، يعتقدون بأرواح أسلافهم، هم بدائيون، لكنهم مسالمون، ما لم يغضبهم أحد، تماماً مثل من سكن الغاب من حيوان أو إنسان منذ أبد الدهر!
كذلك من بين تلك الأماكن البكر الجميلة التي حرصت على زيارتها، والتي تعيش طقساً غرائبياً يوم السبت، قرية الصيادين «ماركن» في هولندا، والتي ستدهشك أن كل بيوتاتها مغلقة على نفسها، وسكانها قابعون فيها، لا يخرجون منها، أبوابها ونوافذها مغلقة، وكنيستها صامتة، ولا أحد يمشي فيها غير السواح يتفرجون على بعضهم بعضاً، ولا يمكنهم أن يقرعوا باباً أو يتلصصوا من نافذة، في تلك القرية لا أهل الداخل مهتمون بما قد يفعل أهل الخارج، ولا أهل الخارج دارون بما يفعل أهل الداخل.. وغداً نكمل.