بقلم - ناصر الظاهري
من حسنات زمن «الكورونا» أن المدخنين حول العالم انخفض عددهم بشكل كبير، وكذلك بفضل الإجراءات البيئية المشددة حولهم في كل أرجاء مدن العالم، وأماكنها العامة، وحصرهم في زوايا زجاجية ضيقة، أو من أراد منهم أن يدخن فعليه الذهاب إلى الخلاء. المهم لي قصص مع التدخين، رغم أنني غير مدخن، لكنني مدخن سلبي بامتياز، لأن جو الصحافة والإعلام والثقافة والأدب والفن، قليل من تجده لا «يعَكّوِر»، وبعضهم في ساعات توتره، يشعل سيجارة من سيجارة، مع تنهيدة تكاد تقتلع قلبه من الداخل، فتحاول أن تجد له سبباً فلا تعرف، مبرراً فلا تجد، وأتذكر في كل الأمكنة الإعلامية التي عملت فيها كنت أعلق عبارة «التدخين ممنوع» - وهي أصح لغوياً من «ممنوع التدخين»، حيث لا يجوز أن نبتدئ بنكرة- على باب مكتبي، لكن باللغة الصينية بعد الاستعانة بصديق، وحين يهم الهمام من أفراد الصحافة والإعلام أن يدخل يسأل عن تلك القنبلة الصينية الموقوتة والمعلقة، فيأتيه الجواب أنها دعاء لأم أي أحد يدخل المكتب، ولا يحمل عود سيجاره في يده، أما إذا رأيت امرأة تدخن، ساعتها ينقص معدل الأنوثة فيها عندي، لأني طوال حياتي كنت أعتقد شيئين للرجال: السجن والسيجارة، المهم غدوت منذ صغري وأنا لا أطيق السيجارة ودخانها وأجواءها وهواءها، وبعد بلوغي سنواتي الذهبية أصبحت تسبب لي حساسية في الأنف مزعجة، بعد تجربة صلب أو صلبين مسروقين في بداية بلوغ الحلم، لإثبات الذات، والرجولة الوهمية المبكرة، وسعال وكحة جارحة للحلق، ودهشة التجريب، ابتدأ الخوف منها، وزاد حين يكتشف الأب أن علبة السيجارة الإنجليزية «روثمان كنج سايز» بدأت تتناقص في الفترة الأخيرة، فتأخذ ما تستحق من عقاب بما تواجد، «شَلْطّين» من خيزرانته أو لسعتين من عقاله المبروم، حينها اكتشفت أن ضريبة السيجارة عالية، فقررت أن أشتري كتاباً بما كان يدفعه بعض الأصدقاء في شراء علب السيجارة القديمة، مثل، «كريفن أو ثلاث خمسات أو كنت أو سالم أو لوكي أو بو جمل أو أبو قطوة، وحتى السيكريتو الهندية البيري».
لكن القصة التي منعتني من التدخين، تلك التي حدثت ذات شتاء في الستينيات، في شهر رمضان، أرسلني أبي أن أشتري له علبة من سيجارته المفضلة سابقة الذكر قبل الفطور من الدكان الجديد الذي فتح في «حارة الربينة»، لكنني وجدت أولاداً يلعبون، فلعبت معهم حتى انقضى الوقت، وأذن المغرب، فهربت من خوف الظلمة، لا من الجن المقيدين في رمضان، لأتناول الفطور، ناظرني أبي بعين حمراء، فاعتقدت أنني لا أجلس كما يجلس الرجال «جابّ ركبة»، اعتدلت، وهو صامت، لكنه كان يغلي في داخله، وأنا أتحاشى عينيه، وتحلقنا حول «الصريدان» في ذلك المنزل الطيني، ولذت بعمتي «رويه» استدفئ من نار حطب «الصريدان» الطيني، ولأحتمي من أي غضب طارئ من الأب، فهي أخته الكبيرة، ولها سطوة، وحس عالٍ في ذلك البيت الكبير، كنت غافلاً حين نهرني أبي، سائلاً عن السيجارة، خاصة بعد صوع الصيام، فتلمست النقود في جيبي، وتذكرت ما أرسلني من أجله، فتناول كسرة حطب سمر ملتهب من «الصريدان» ورماه في حضني، فقفزت لكني أصبت بحروق سطحية، تكهرب جو المنزل، وزعلت عليه عمتي، وأمي، وجارتنا «عوشة بنت عبدالله» «وغبيشة بنت عبيد»، وحاولت أنا من جانبي أن أضيف بعض من «الميلودرامية» على المشهد، غضب أبي ثلاثة أيام، واستقر في قلعة الجاهلي حيث كان يعمل، لكنه حين عاد، كان يريد أن يعتذر من الجميع، لكنه لم يفعل، لأنه لم يتعود على ذلك، غير أنه اتخذ قراراً عسكرياً بما يليق برتبته، وأعلن مقاطعة السيجارة، وألا يعود لتدخينها بعد تلك الحادثة، كان ذلك اعتذاره الذي يقدر عليه، ولا يقدر أن يستعيض عنه بكلمات، ربما لا تسعفه.