بقلم - ناصر الظاهري
في بدايات الأسفار الأولى، كان الفضول يسيّر طريقنا في المدن، وكانت الدهشة مفتاحنا للفرح بالأشياء فيها، والتعرف عليها، وكان ذاك الوقت يتسم بالبساطة في التعاملات مع مجريات الأمور، لا تلك الريبة والرهبة والتوجس والتحفز والتربص منك، ولا منهم، زرنا دولاً لا نعرف إن كانت تتطلب منا «فيزا»، وكانوا يدخلوننا بعد دفع المعلوم في المطار، لا تفتيشات، ولا أجهزة إلكترونية تشعرك أنك مريب، وتشير لأخذك، كان يمكنك أن تسافر بـ «بيب مالح»، ولا أحد يسألك، إلا من باب المعرفة بالشيء، لا الجهل به، وكانت الحياة رخيصة في عمومها، والناس يساعدون بعضهم بعضاً، كنا نحمل الحقائب أحياناً عن بعض المسافرين الذين نشعر أنهم غير قادرين، اليوم الشك يقف حائلاً دون أن تساعد امرأة في شهرها السابع، وتحمل على خاصرتها فطيماً، في حمل حقيبتها اليدوية الصغيرة، والخوف يمنعك من أن تحرس حقيبة واحد ألحّ عليه نداء الطبيعة لدقائق. الوقت تغير، والناس تبدلوا، والأخلاق تكاد تذهب دون رجعة، والقوانين المشددة أرعبت الناس، وجعلتهم يتخلون حتى عن إنسانيتهم في أبسط الأشياء، وفي أصعبها، مثل إغاثة الملهوف، ونصرة الضعيف، ومساعدة المحتاج، لذا اليوم الناس، في بعض الدول، ترى رجالاً يعتدون على امرأة، ويتركها المتفرجون فريسة لهم، ويولون أو ترى جمهوراً محتشداً في الشارع يتفرج على شخص مقتدر وظالم يفتك بإنسان بسيط، ولا أحد يتدخل، ولو رأى الناس جريحاً أو مصاباً ينزف دماً على الرصيف، فلن يتقدم أحد منهم لإسعافه، والشجاع من سيتصل بالإسعاف، ويتخلى عن السبق الإخباري، ويغلق كاميرا هاتفه عن التصوير.
وكنت في بداية السكن والاستقرار في فرنسا أو الإقامة شبه الطويلة في أوروبا، وحين كانت اللغة فرخ صغير يحبو كنت أدخل رأسي في تفاصيل اليوم للعلم بالأشياء، واكتساب المهارات اللغوية أو حتى الأمور الحضارية، خاصة إن كان الإنسان يريد أن يقرأ أدب هذا الشعب وقصصه ورواياته، ويتعرف على عميق عاداته، وتفاصيل حياته، لذلك كنت أكثر من فعل الخير، وهي طبيعة بشرية ورثتها من بين الأشياء الجميلة المشتركة التي كنت أرى فيها الأب والأم وهما يفرحان إن قدما شيئاً، فبقيت في الرأس أو جاءت عن طريق الأنزيمات لا أعرف، وهي كذلك صفة حضارية مكتسبة من القراءات والمشاهدات وبناء الشخصية، لكنها كثرت أكثر من اللازم في تلك الزيارات الجميلة التي لا تعرف الزمن ولا الوقت الذي يجري خلفك، اليوم أتحسر عليها، ولعل الفضول وربما الشغف القصصي والكتابة، ومعرفة عوالم النفس البشرية الخفيّة في كل الظروف زادتها أيضاً، فكنت أفسح دائماً للقادم أمامي أو أحاول أن ألقي عليه التحية والسلام، ولو بإيماءة من ضحك العيون أو أعبّر عجوزاً الطريق حتى أقعده على مقعد الحديقة، وأظل أتفقده من بعيد بين الحين والحين.. وغداً نكمل.