بقلم - ناصر الظاهري
بعض المهن يضيف عليها ممتهنوها شيئاً من الظرف والفكاهة، فتصبح مع الوقت الشخصية والمهنة، وكأنهما أمر واحد ولازم، ولا يعلق بالذهن من المهن المثيلة والشبيهة إلا ما اتصف بروح المرح، حتى إن بعض الناس يتغلبون على صعوبات تلك المهن وقساوة الحياة بالحركة الساخرة، والكلمة الساحرة، وقد صادفنا في حياتنا، وفي مدن مختلفة، الكثير من هؤلاء الذين سخروا مهنهم لتصبح ضاحكة، ومسلية للناس، ويتذكرونها مع صاحبها على الدوام، ولو غيبتهم الحياة أو تباعدت أيامها..
- أذكر من هؤلاء شرطي سير في مدينة تعز كان يسمى «أبو شنب» بهندامه، وشواربه المميزة، وانضباطيته، لكنه يلاقي هذه السيارة بترحاب، وتلك الأخرى بمزاح مع سائقها، وأخرى يخوّف بعيونه الأطفال المشاغبين الجالسين كالرجال في المقعد الخلفي، يبدأ يومه باكراً، ولا ينتهي إلا حين تخلو الشوارع من حركة الناس، وانقضاء السوق، في ذلك النهار يسلم عليه نفر كثير، ويضفي هو على يومهم شيئاً من المرح، يتذكر السيارات، ويميز الوجوه، والناس تقصده للمرور عليه ورؤيته وهو في مهنته التي أضاف عليها ألفة ومحبة يفرح بها الناس، ولا يمكن أن ينسوه، وإن غاب ظلوا يتذكرونه، «أبو شنب» في مهنته تلك، وفي سنواته الطوال تلك، لم يخالف أحداً.
- نادل في مقهى في القاهرة، إن جلب لك شاي «كشري» عدّد لك فوائده العشر، وفضله على الشاي «أبوفتلة»، وإن طلبت رأس معسل زغلول، اجتهد أن يظهر محاسنه، ويجرّح في مثالب معسل التفاح الإسكندراني مع زبائنه من أصحاب الأنس، تجده يسرد النكتة وراء النكتة، ويمكن أن يدخل في «إفيه» معهم، ومع زبائنه الصحفيين والسياسيين يتبادل آخر الأخبار العالمية، وخفايا أخبار البلد، ومع الفنانين يخوض في حديث الفن والسينما، ومع المثقفين عن كتاب يزكونه له أو كتاب سمع به، ويريد أن يقرأه، كان يفرح بلقب «مسبّع الكارات»، ويفرح أن جعل مهنته الصغيرة -كما كان يقول- تعرّفه على الناس الكبار.
- ملمّع وماسح أحذية النجوم في مهرجان «كان» السينمائي، والذي كان يستقبل دوراته كل سنة، ويلتقي بذلك الكم الضخم من الحشود السينمائية من فنانين ومخرجين ورجال مجتمع مخملي، كان من ظرفه أن النجوم تسعى إليه، رغم أنهم يلبسون أحذية لامعة وجديدة «سواريه»، فقط ليستمتعوا بـ«قفشاته» وسخريته، وأحياناً حكمته، وحين قرر الاعتزال، كتب كتاباً مدهشاً عن تجربته، وتجربة الأحذية اللامعة قبل أن تطأ السجادة الحمراء.
- أما أظرف هؤلاء، فكان متسولاً أعمى في باريس، لا يطلب مالاً من المارة، ولكن يجبرهم على التوقف، بلطيف عباراته، وكلماته الجالبة المرح والبركة والأمل، هذا «المتسكع» لم تكن أمامه قبعة يحصّل فيها نقوده، ولكن كانت لديه أمنية وحيدة فقط ومكتوبة: أود أن أرى الربيع هذه السنة!