بقلم - ناصر الظاهري
كم زرت سوريا ومدنها ودمشق، غير أن للزيارة الأولى وقعها الجميل على النفس، يومها كان الشغف، وذلك الحب الذي تسربه كتب التاريخ، والقراءات، والبحث عن الانتماء المنهجي، كان شيئاً من فيروز ومسرحياتها الغنائية، وأناشيدها التي تنثر روائح الياسمين الدمشقي على صباحاتنا، كان شيئاً من أساتذتي في المراحل الإعدادية والثانوية الذين أتوا من مدن سوريا المختلفة، وبأيديولوجيات مختلفة، وأرادوا أن يصنعوا ضجيجاً في الرأس، كان شيئاً من الهوى الشامي الذي يقع عليّ برداً وسلاماً، ومحبة كنت ألتمسها في الحارات القديمة، والمفارش والزوايا والتكايا، ودكاكين العطّارين، وحوانيت الورّارقين، وفي الطرقات، النقوش على الصدف والأخشاب، وتلك الحرف الهاربة إلى أزمنة قديمة حين تجلى البهاء والزهو، وعز ملوك وسلاطين، تلك الشواهد الموزعة على مقابرها التاريخية لأناس خاضوا المعارك، وأبحروا في العلوم والمعرفة، صحابة وأمراء جيوش وخلفاء، شعراء وفنانون وهاربون كثر برسالاتهم سكنوا الجبال البعيدة، حين تحضر الشام، تتداعى الأشياء، وتحضر ألف حكاية وقصة تروى.
هكذا في ذاك العمر من الوعي زرتها لأول مرة في أواخر السبعينيات، حين كنا في الصف الأول الثانوي، وكان السفر لنا حينها ضرباً من الفرح والفضول والمتعة، وانفتاحاً على دنيا لم نكن نعرفها، إلا من خلال تلفزيون لا يلتقط المحطات بوضوح، وراديو يصر كثير من الآباء ألا يشغّلوه إلا أثناء نشرات الأخبار، وكلام قليل من معلم الجغرافيا الذي يصرّ كثيراً على عدد السكان، وكم تبلغ مساحة البلاد، ما بقي كله من قراءات وأسئلة، وأحلام بارتياد الآفاق. كنا في تلك الصيفية مجموعة من الأصدقاء وزملاء المدرسة المتفوقين، وكانت تلك الرحلة مكافأة لهذا التفوق، زرت يومها دمشق وحمص وحلب وحماة واللاذقية، وحين أدركنا «كسب»، اعتقدت أنني في أعالي العالم، كان صيفاً غير أن أجسادنا ارتعدت برداً في تلك المرتفعات، وهواء الأشجار التي تناطح السماء، والتي نراها لأول مرة، وكأنها من وحوش الأساطير، لأن أقصى ما كنّا نراه طولاً بين الشجر، العُوّانة من النخيل، غير أنها لا تعادل ربع جذوع تلك الأشجار الباسقة والتي تشعرك بمهابة الغابات المرعبة، وصلنا يومها حتى الحدود التركية، وطفنا بمدن أخرى، لعل أجملها «كسب»، والتي استقبلنا فيها الأطفال في مخيمهم الصيفي المختلط كفوج، ربما اعتقدوا في البداية أننا من جهات أفريقيا غير العميقة بتلك الوجوه المسمرة، و«الكشيش» حيث كانت تشبه «كِشّة» الواحد منا رمثة قديمة، ملت من حرقة الصحراء، ومجاورة شجرة الأشخر الحزينة دائماً، فقط ما أنقذنا قليلاً اللسان العربي، ومعرفة شخصية «غوار الطوشه»، ومثلما اعتقدوا بأفريقيتنا، اعتقدنا في البداية أنهم من الإنجليز لحمرة بشرتهم وتوردها، وتلك العيون الصافية مثل قطرة زيت الزيتون، والشعر الأصهب الذي يميز أكثرهم، غير أن أحد الفاهمين من مجموعتنا، استدرك الوضع وقال: «هاي الحمرة من كثر أكل الطماطا، ما تعرفون أنتم..»! وغداً نكمل.