بقلم - ناصر الظاهري
تخرج من رحم الأزمات تفاصيل صغيرة، وأشياء جانبية مطروحة على هامش المسألة، لكنها تصبح علامات على الطريق، ومنعطفات مهمة في حياة الناس، لأنها تمس عواطفهم وأشجانهم وتلامس شغاف قلوبهم، هي أمور تخص كيفية تعابير الناس عن حزنهم، وتأثرهم، وصادق مواساتهم، وقد تجلى ذلك في تأثر رئيسة وزراء نيوزيلندا، فقد تخلت تلك المرأة القوية عن دبلوماسيتها التي تجعلها تطمس أي تعبير أو المبالغة فيه، وكانت كالأم الثكلى، فقد ارتدت مرة السواد، ومرة تحدثت بلغة عربية، ومرة أخرى ألقت السلام والتحية الإسلامية، ومرة رفضت ذكر اسم ذلك المجرم الفاعل، فقط لتقول للعائلات المنكوبة إني معكم، ونيوزيلندا كلها معكم، لقد كانت بعيدة عن التمثيل، وحده الوجه والعيون الصادقة لا يمكنها أن تخدع الناس، حتى رجال الهامش من المتصعلكين، وسائقي الدراجات النارية، ومرتادي الحانات، والذين بيوت الكثيرين منهم الشوارع، كانوا صادقين في موقفهم المشرف والبطولي، فالإنسان الخيّر يبقى إنساناً صادقاً في النهاية، لقد تكفلوا بحراسة المساجد وتأمين المصلين في الجمعة التي تلت المأساة والمذبحة، لقد كانت هناك قصص وروايات تحكى في نيوزيلندا خلال تلك المجزرة للمصلين الراكعين في مساجدهم.
لكن من بين تلك القصص، قصة الشاب «الذي حظي بتلك الهالة الإعلامية»، وهو يستحقها لشجاعته وجرأته وصدق تعبيره، هو «فتى البيضة» الذي طغى لقبه على اسمه، فقد قدم مثالاً للشرف والرجولة المبكرة، حينما لقن ذاك السياسي المتعصب والبرلماني البعيد عن نبض الناس، والذي ألصق على صلعته بيضة فاسدة، دليل الاحتقار، وتعبيراً عن البريئين من الناس الذين سالت لهم دماء، وهو يتنطع بكلمات التشفي، بحيث لن ينسى العالم تلك اللحظة التي عبرت عن مقتهم للتعصب والفرح بالإرهاب، لحظة دهشة ذلك الدبلوماسي الأحمق وهو يرشق بتلك القذارة التي يستحقها عندما لا يعترف بمشاعر الناس وحزن المواطنين، حتى ارتفعت بفضل ذلك الفتى، وفعلته الصادقة، المناداة بفصله من البرلمان، فقد أيده الآلاف من نيوزيلندا وخارجها وأستراليا في غضون وقت قصير، وبلغت التواقيع المنادية باعتزاله العمل السياسي، لأنه لا يستحق أن يكون ممثلاً للشعب، وتلك هي القاضية في اعتزاله العمل العام والنشاط السياسي، هذا الفتى تحمل الكثير من أجل ذلك الموقف الصادق، لكنه وجد بالمقابل التعاطف الشعبي من الجميع، حتى إنهم جمعوا له الأموال لكي يخرج من قضيته أو لتكليف أي محامٍ إنْ اضطر للدفاع عنه، إلا أن ذلك الفتى قام وتبرع بكل المبلغ المجموع له للعائلات المنكوبة، وهذا درس نبيل من شاب، ولن ينساه الناس، وربما أوصله مستقبلاً لدور سياسي إنْ كانت ميوله تتفق مع دراسته، دائماً الحياة تعلمنا، وليس شرطاً من يكون أكبر منك بسنة، فالصغار كثيراً ما يعلمون الكبار حينما يكونون في أجساد البغال وعقول العصافير مثل ذاك السياسي البغيض والعنصري والمتعصب الأرعن!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن جريدة الاتحاد