بقلم : ناصر الظاهري
من يقصد تلك المدن التي حكمت يوماً بالحديد والنار، وتوالى عليها حكام أنجزوا لأنفسهم أصناماً، ونسوا غيرها من المشاريع الوطنية، مدن كان نصف سكانها مخبرين، والنصف الآخر مذنبين، يشعر زائرها اليوم بظلال خوف تمشي في طرقاتها، وآنّات ألم ووجع تنبعث من أركانها، قاسى منها أناس بريئون، ضحكتها مهما كانت منطلقة، فهي كتومة على الفرح المطلق، وشيء من العبوس يبدو على محياها، رغم جماليات المكان، وروائح التاريخ، مدن مثل برلين الشرقية، مدن في أوروبا الشرقية، ومدن في منظومة الجمهوريات السوفييتية المسلمة، وبعض من مدن عربية «تمركست» وتحزبت، مدن تئن من ماضيها، وغير متيقنة من انفتاحها، رغم أن ميزة المدن الانفتاح، والترحيب بالآخر، وتظل ضاحكة على الدوام، لا يليق بالمدن الجميلة العبوس، هي كالنساء، فكيف إذا ما حاصرتها بنظام سياسي واقتصادي وعسكري لا يرحم، خاصة إذا لم يكن لها بحر أو مهرب، هيمنت عليّ هذه الفكرة عند زيارة مدينة دوشنبيه، عاصمة طاجيكستان، وما يعرف ببرلين الشرقية قبل هدم الجدار، ومدن عدة بعضها نهضت، وبعضها ما زالت تترنح، كل تلك المدن لها تجربة سابقة وقاسية من النظام الاشتراكي، وما يتبعه من التزامات صارمة، وحياة لا تخلو من شظف العيش، والاكتفاء بما وجد، والنوم مبكراً، ولا ثمة تطلعات نحو أفق جديد أو مستقبل يمكن أن يشيده الآخر لنفسه وأولاده، إلا إذا ما دخل في معترك سياسة الحزب الواحد، ودار في فلك الحكومة، وحرم من حريته الشخصية، وحرية التفكير، وأصبح رهين المحسوبية، والتفكير المحدود والموجّه، كنت خلال تجوالي أتفكر فيها كيف كانت الحياة منذ الخمسينيات وحتى الانهيار المدوي للمعسكر الشرقي، وتفتت الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات؟ لا حرية لممارسة الدين، وطمس اللغة الوطنية، وفرض لغة قومية جديدة، مدينة «دوشنبيه» مثلاً في تلك الفترة غير البعيدة، كانت المساجد فيها خاوية، والحرف العربي الذي تكتب به الطاجيكستانية تحوّل لحرف روسي، وأعيد تشكيل تفكير الجيل الجديد، وبناء أيديولوجية لم يعتدها الطاجيك، وهجّروا أناساً من أماكنهم، وأحلّوا أقواماً من قوميات أخرى مكانهم، ليذوب الجميع في بوتقة واحدة، وتتماهى الأعراق والأجناس والمعتقدات، وإبطاء التقدم والتطور في مدن الهامش لصالح مدينة المركز، ومن زار وعرف مدناً كانت تحت ذلك النير من النظام السياسي والاقتصادي في المعسكر الشرقي، كان يرى البؤس على الوجوه، والأسمال البالية والموحدة والرخيصة على الأجساد، ولا قناة تلفزيونية أو إذاعية إلا تلك الحكومية التي تجلد الناس بأخبار موجهة وباردة منذ أيام، وأفلام عادة ما تكون مكررة، تحكي عن النضال الوطني، وكيف «سقوا الفولاذ»، فلا يبقى للناس إلا ذلك المشروب الوطني الرديء الذي يجبرهم على النوم مبكراً، ونسيان نعيم الحياة، وليونة العيش، وتنفس الحرية، والتصبح والتمسي بأصنام مزروعة في كل الجهات للزعيم الأوحد.. وغداً نكمل.