تذكرة وحقيبة سفر 2

تذكرة وحقيبة سفر -2-

تذكرة وحقيبة سفر -2-

 صوت الإمارات -

تذكرة وحقيبة سفر 2

ناصر الظاهري
بقلم - ناصر الظاهري

خلال زيارات الأمكنة البور في العالم، ومستوطنات السكان الأصليين، وحين زرت كيرالا مرة، حرصت أن أقطع مسافات لأتعرف عن كثب بسكان جنوب الهند القدامى الذين يطلق عليهم «اديفاسي» وما زالوا يقطنون في قرى نائية، وبدائية، تسيّرهم البساطة، ويحتكمون إلى موروثاتهم، وما جرت عليه عوائدهم، لا يخالطون، ولا يختلطون، وقد بقيت سويعات أنتظر كاهنة المعبد أن تعود من مشوارها لكي أحظى بمجالستها، لأنها مفتاح القرية، وهي الآمرة الناهية فيها، وبدون إذنها لا يمكن أن أتجول وأصور، وأشعر بجدوى الأشياء، كانت عجوزاً، بسيطة، لا ترتدي إلا أسمالاً رقيقة، ضحوكة، بما تبقى لها من أسنان، وكان بيننا المترجم، فقالت لي ضاحكة: «أنت وسيم»! فأدخلت سعادة باردة على قلبي، فرديت عليها مبتسماً وممازحاً: «هل تتزوجيني سيدتي»؟ فقالت، وهي تتصنع بعضاً من الحسرة: «ربما تأخرتَ كثيراً.. أو ربما أنا استعجلتُ قليلاً»! فهزتني تلك العبارة، وكنت حينها أصور مشاهد فيلمي «Goddess of Time» فأدرجتها ضمنه، عن سيرورة الزمن، وصيرورة الإنسان.
ومن بين تلك الزيارات المشابهة، زيارتي لقرية أندونيسية وجدتها تتنفس هواءها الرباني، بعيداً عن ملوثات المدن، وصخبها وضجيجها، تصحو على صياح الديك، لا منبهات، ولا ساعات لليقظة المفزعة، يتسلل الفجر لبيوتها الحجرية عبر بوابة ونوافذ صغيرة، والشمس تأتي لها فرحة ناثرة شعاعها، أسراب من طيور تبقى تغني حتى يصحو الناس، تلك قرية خضراء عدتها «اليونسكو» من أنظف بقاع العالم، تستقر على مرتفعات من جزيرة «بالي»، ما أن تصلها سيتغير حالك، وستشعر أنك خفيف، وأن رئتيك نظيفتان، وستتنفس بعمق، مستشعراً رائحة العشب الأخضر، وخرير الماء حين يجانب المنحدرات، جاعلاً من غابة الخيزران مرتعاً ومرعاً للإنسان القادر أن ينسحب، منتصراً لبدائيته، ولروح الفطرة التي جُبل عليها، تلك هي «بنجالي بوران» أنظف قرية في العالم، والتي تمتد بيوتها الحجرية القديمة على مدرجات، وكأنها جزء من معبد هندوسي بُني من أجل الأبد، وفيها، وقبل أن تدخل أبوابها المجبولة بالخشب والنقش عليه، تجد الأزهار والورود تحف بالمكان، وثمة طبيعة وأشجار بقرب النافذة، وعند منحنى المطبخ، ومرات تتسلق جدران الحمامات، أزهار تستقبلك، وورود تودعك، بيوت نصبت من الحجر «البازلتي» كل أدواتها من الطبيعة، وأهلها يعتقدون أن الزمان نسيهم، ولم يعد يتذكرهم.
تسير العجوز تتبع ظلها، وتستريح عند كل باب، والرجل المسن يداعب نساء القرية، ويضاحكهن، وربما لا يصدِّقن وعوده أول النهار بالزواج بعدما ترمل، فهن يعرفن قصص كل يوم، الأطفال لا تخشى عليهم ما يروع طفولتهم، مدارسهم لزق البيوت، والطرقات كلها موصلة ولا مرهقة، ولا فزّاعات غير فزّاعات خيال المآتي في حقول الرز المنتشرة على مد البصر، ما ألذ تلك الوجبة البسيطة المصنوعة في قدر صغير بحجم لقمة أهل البيت، وتلك الرائحة التي تستدعي جوع الضحى، وتسير مع آخر ساعات النهار منتقلة من بيت لبيت، آه.. ما أطيب أكل الجيران، لقد غابت أشياؤنا.. وتذكّرتها هنا.. بعد
أن اكتحلت عيناي بالخضرة، وردّت روحي إلى مرعاها الأزلي، وامتلأت رئتاي بهواء من غاب الخيزران، تمنيت ذاك العش الأخضر الذي هجره الإنسان نحو قفص المدينة الإسمنتي، ولا يبدو عليه الأسف حتى الآن!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تذكرة وحقيبة سفر 2 تذكرة وحقيبة سفر 2



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 11:31 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أمور إيجابية خلال هذا الشهر

GMT 20:33 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

تتخلص هذا اليوم من بعض القلق

GMT 21:36 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 17:50 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

يحالفك الحظ في الايام الأولى من الشهر

GMT 16:17 2018 الأربعاء ,02 أيار / مايو

خطوات تنظيف "خشب المطبخ" من الدهونوالأتربة

GMT 15:54 2015 الخميس ,03 أيلول / سبتمبر

أفضل 4 ألوان يمكن أن ترتديها في مكان العمل

GMT 14:13 2017 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

وفاة البطل محمد سعد بعد تمثيل مصر في المسابقات الدولية

GMT 08:00 2012 الثلاثاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

وثائق ويكيليكس وأسرار الربيع العربي

GMT 16:20 2014 الأحد ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

"أبوظبي للسياحة" تطلق معرض "أبعاد مضيئة"

GMT 13:20 2015 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هطولا للأمطار الرعدية فى السعودية الجمعة

GMT 18:49 2016 الإثنين ,04 كانون الثاني / يناير

لوحات ضوئية عكست حالات إنسانية ووجدانية في معرض أبو رمانة

GMT 01:53 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

Falcon Films تقدم فيلم "بالغلط" من بطولة زياد برجي

GMT 14:42 2017 الجمعة ,13 كانون الثاني / يناير

تشيلسي كلينتون تتألق في معطف أنيق باللون الأسود

GMT 00:17 2022 الخميس ,15 أيلول / سبتمبر

إيران... لا خطة «ب»

GMT 09:44 2019 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

الأكسسوارات المنزلية جواهر تثمّن المشهد الزخرفي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates