ناصر الظاهري
في النصف الثاني من الثمانين، قيض لي أن أسافر إلى اليمن كصحفي ضمن وفد رسمي، وسائح، يسبقني فرح لرؤية أمر كان يأتي من حكايات الكتب، وأحلام يسربها لنا ذاك الخافق الذي ينشد دوماً ألقاً، ووهجاً، عربياً، هي صنعاء إذاً، ولو طال السفر، ولو كانت على مرمى حجر، غير أنه لا أجمل من تلك الفرص التي تدق بابك بعنف، وتقول: تزود، فإن السفر قريب، كانت تلك الرحلة دعوة لحضور مناورة «الفجر»، أما لي فإنها المصافحة الأولى لذلك البلد، لذا قلت لهم: دعوني أهيم هنا، واتركوني، سافر الوفد، وبقيت سائحاً، لأن تلك التربة التاريخية تعني لي شيئاً كثيراً، وتلك الوجوه المنّسلة من حقب الدهر البعيد، تعني لي شيئاً كبيراً، لا يمكن أن أرى تلك المباني العوالي، الرابضة على قمم الحجر أو تلك البيوت التي تسكن الجبل، ولا أقف مشدوهاً، أراجع كتب التاريخ، وأتعلم، لا يمكن أن أرى مرتفعات إبّ الخضراء التي تريد أن تقطف الغيم، ولا أتوقف متأملاً، وأتفكر، كانت أبواب صنعاء تستوقفني، وتقول لي: من هنا سلك واحد مثلك أو يكاد يشبهك أو هو شيء من روحك، وتركناه يمر، كان سوق الملح، وجلبة أولئك التجار القدامى، شبيهاً بأسواق الجاهلية الأولى، ورحلة الشتاء والصيف، ثمة شيء من غبرة، وعفرة تغشى الوجوه، وتقول: لقد توقف الزمن هنا.
دخلت صنعاء متهيباً خوف أن تغلبني بحبها، دخلتها وجلاً لكي لا أضيع في دروبها، ولا أجد نفسي، كانت الأيام الأولى التي تلزمك بالرسمية وبملابسها الثقال، وبالتحرك الذي يمنطقك فلا تأخذ خطواتك مداها، ولا تتعفر قدماك بتربتها، كنت أريد أن تكتحل عيناي بكل تلك السموات غير البعيدة، أن أطوق اليمن من بحرها وبرها وجبلها، ولا تفوتني فائتة، ولا تشرد مني شاردة.
حضرت مناورة «الفجر» في سبأ بعد أن قطعت بنا سيارات عسكرية طرقاً يتساوى معها الرمل والحجر، والصاعدة والهاوية، ذكرتني بالطرق الوعرة التي كان يسلكها «الجيب غير المطربل» ونحن صغار، ذاهبين إلى أبوظبي أو راجعين من العين، أو صيفاً حين نبغي عُمان للمقيظ، طرق حضرت في ذاك الصباح المبكر، والمتربة ريحه، مع مهارة منقوصة، ومشكوك فيها من طرفنا لذلك السائق الذي كان يكن عداء متجذراً لتلك السيارة، ويعاملها كخردة غير مستردة، كنت لا أشك أن بصره حاد، لكن ليس في مثل تلك الدوامات الشيطانية، تم يغلينا، ولا أحد يتلقفنا.. ونتابع غداً