بقلم - ناصر الظاهري
في محاولاتي المستميتة لتجسير هوة التباعد بين مكتبتي الورقية، والتي بدأت في تكوينها منذ السبعينيات، وبين أبنائي من القراء الجدد من عصر المكتبات الرقمية، عملت على صنع جسر من حرير بينهم وبينها، لعل وعسى أشعر بنوع من الطمأنينة عليها، وأن لا تضيع فجأة هكذا أو يستقر بها الحال كجزء مهم من مكتبة عامة، وأثناء استعراض رفوفها التي أعرفها وحدي حتى في الظلمة، وقعت عيناي على كتاب باللغة الإنجليزية، أكاد أميزه من لونه وغلافه، فسعدت به، وبالفكرة التي سأقدم عليها في تجربة ردم الهوة بين الأبناء ومكتبة أبيهم العامرة، الكتاب كان رواية «الجذور: Roots
The Saga of an American Family»، ومكتوب على صفحتها الأولى بالقلم الأزرق، وبخط يدي: «اشتريته من بومبي يوم الاثنين 18 يناير 1982»، وهو عمل للكاتب «اليكس هيلي»، نال عليه مؤلفه جائزة «بوليتزر» عام1977، وأنتج كعمل تلفزيوني حاز إعجاب المشاهدين في العالم بجزئه الأول، ثم عمل تكملة له الجزء الثاني من ملحمة تلك العائلة الأميركية، منذ أن جاء بعض أفرادها عبيداً مباعين، مثل بطل الرواية «كونتا كونتي» المجلوب من غامبيا من مدينه «جوفور» عام 1761، كان عمره يومها 18 عاماً، ويدين بالإسلام، ولغته الأم «ماندينغا»، وكان معه في تلك السفينة المبحرة 140 شاباً وفتاة من أفريقيا، لقي 60 منهم حتفهم حيث رموا في عرض البحر، وبيع الآخرون في سوق النخاسة، وكان منهم ذلك الشرس المقاوم «كونتا كونتي» الذي عذب، وقطعت رجله لتكرار محاولاته الهروب من ربق العبودية، قاوم وكان ملهماً لبقية العبيد الذين كانوا يعملون أكثر من عمال السخرة، رفض تسمية مالكه له بـ «توبي»، وتمسك باسمه «كونتا كونتي»، لكنه حين مات كتب على قبره «توبي»، وحدها ابنته التي كبرت فيما بعد، وزارت قبر والدها ومسحت اسم «توبي»، وأعادت له اسمه الذي اختاره له أبوه وأمه، اليوم يوجد نصب تذكاري له في وسط مدينة «انابوليس».
تناولت ذلك الكتاب القابع في مكتبتي منذ 38 عاماً، بفرح وشيء من السعادة، نافضاً عنه غبار الوقت، مستعيداً ذكرياتي معه، وكيف جلبته من أحد أسفاري إلى الهند، فقد ظل ذلك الكتاب على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات، وقلت لأقدمه لابنتي «أروى»، ناصحاً إياها بقراءته، لأرى كيف يتلقى الجيل الجديد الأعمال الأدبية الإنسانية، وهل لها التأثير نفسه عليهم؟ وهل يمكن للجيل الرقمي أن يتقبل كتاباً مطبوعاً بطريقة قديمة، وأوراقه مصفرة، وإن كان بنفس الحجم الحالي لكتب «المعطف»؟ يومها كانت ثورة في طباعة الكتب التي بحجم جيب المعطف ليسهلوا على القرّاء حمل الكتاب والتنقل به طوال الوقت، وفي محطات القطارات والنقل العام.. فهل يمكن أن تتشكل علاقة من نوع مختلف بين الرقمي والورقي كخيط من حنين، ومواصلة العبور إلى الضفة الأخرى من دون أضرار جانبية؟