ناصر الظاهري
هي رحلة امتدت بطول العمر زادت على المئة عاصمة، وتعدت المئتي مدينة، ونغلط في العد، وننسى العدد، وكل مرة نَصِيْح: هل من بلد جديد، ومدينة لا نعرفها؟
هي تذكرة.. وحقيبة سفر، وخير ما قلّ المسافر دوماً وأبداً، هي نهار المسافات، وتعب القدم، هي الليل حين يتوحد طائر الليل بالدمع والشجن، وما يتركه العشق في النفس، لطائر الليل صدقه، وحين يلتحف الستر، وهي أشياء قليلة من كثيرة، مما صادفته على حافة الوجد والمدن، هي قراءات، وتأملات، وأشياء كثيرة وغالية، حملتها حقيبة المسافر دوماً.. هي قصص حقيقية في مجملها، متزينة ومتجملة بمخيال المحب للأسفار والبلدان، حيناً وحيناً، خاصة حين يكون للتاريخ رأي، وللجغرافيا رأي، فيها ما صادفه من بشر متشابهين ومختلفين، ومن تصرفات أناس لا يعرفهم، وربما اجتمع بهم فجأة، أو مروا في طريقه مصادفة أو ساقتهم رياح التنقل والترحال، وكانوا زملاء سكة سفر، طال أم قصر.. بعضهم كانت تلويحة الوداع آخر العهد بهم، بعضهم بقي في الرأس والذاكرة، وبعضهم رأيته في تقلبات الدهر، وبعضهم أذكرهم ما أن أصل لمدنهم، ويكونون أول شيء أريد أن أراه، وأطمئن عليه، هل ما زال في مكانه؟ هل جرفته الدنيا؟ وبعضهم الآخر ظلت رسائلهم تصل لبريدي البارد، منهم: بائع الورد العجوز في باريس، الذي ظل يتمنى ألّا يرى حرباً من جديد، فقد عاشها وكفى، وذلك المتشرد «الكلوشار» المخلص لشوارعها، وزجاجته المسائية، المهادن للناس والأمكنة، اللص المغاربي الظريف الذي أدهشته الغترة والعقال، برطانتها الفرنسية، وأصابع حسناء ناعمة قابلة لأن تطبق على عنقك، لكي لا تصعد بعشقها للرأس الذي تتمنى لو تقدر أن تنبش ما فيه، فقط لترتاح وكفى، كيف ركبت مع صديق سيارة الشرطة التركية لنلحق بسيارة الموكب الرسمي، وماذا ظنّ الناس المتجمهرون في ذاك السوق المزدحم، حتى كدت تسمع كلمة: «لصان من مكان غريب»، كيف قبضت على السعادة في ليل مدريد مرة، وتمنيت لو تطول كدهر، وما فعلته غرناطة في الروح، ولم كلما دخلتها شعرت بذلك اليتم التاريخي الذي لا ينتهي، سراييفو وسحرها، ووصيتها أن ترجع إلى هنا كلما أردت الحب، فيينا وصباحها الذي يشبه صباحات المدن، ثم يختلف، وأشياء كثيرة.. بعضها ذكرى من غبش، وبعضها الآخر يعنّ على الذاكرة، ويجلب لها زهو الفرح، ورائحة المطر.. ونكمل