ناصر الظاهري
تجربة أكل شعوب الدنيا في حد ذاتها سفر، وسفر طويل، ولعل من متعة تذوق ما تجود به أيدي شعوب جديدة عليك، قد تعجبك كيفما كانت، ولا تقدر إلا أن تقول «سو ديليشس أو ديليسيو» كما يفعل الأجانب، أما نحن فقبل أن نجرب الأكل نتشممه، ونسأل عن مكوناته، وعادة لا يعجبنا منظره المخضّر السائل كزلال، وأغلب الأحيان نفوّت الفرصة على أنفسنا تجربة طعم أكل جديد، ربما سيعجبنا، لا أقول هذا مدحاً في محبي السفر من الغربيين الذين يأتون على الأخضر واليابس، ولا ذماً في المسافرين العرب والمسلمين الذين يظلون يتشكون من أكل الشعوب، ولكنها ملاحظة خبرتها في بلدان بعيدة، ومدن كثيرة، فالهنود عادة ما يحملون أكلهم معهم، ومن صنع أيديهم، ولا يقاربون أكلات الشعوب الأخرى، ربما تدينا، وربما عادة اجتماعية أو لأسباب اقتصادية، فـ«سفر طاس أو دبه خانه» تلك الأدوات النحاسية أو القصديرية الطولية والتي يضع فيها الهندي أكله، تكاد تتبعه في السفر، رغم أنه لا تخلو مدينة واحدة في العالم من مطعم هندي فيها، أما الصينيون فيظلون يأكلون أكلاتهم من مطاعمهم المنتشرة في كل ركن من المدينة، ومنها الغالي والرخيص والشعبي، أما العرب فأول ما يطأون مدينة أوروبية يسألون أولاً عن مطعم لبناني، وهل فيه سهرة في الليل، وإن لم يجدوا صاحت بهم البطون: طيّب أي مطعم عربي، فيه ذبح إسلامي، ويظلون يتنازلون مطعم إيراني، وإلا هندي، مافي مطعم تركي، وآخر شيء إما «بيتزا أو جيز برجر»، يخافون تجربة الجديد وسبر غير المعروف!
ولم أجد مدناً مثل باريس ولندن فيها مطاعم لدول أكثر من عدد السفارات، ففي باريس تجد مطاعم صينية من مختلف أعراقها، تريد الفيتنامي، الإندونيسي الفلبيني، الكاريبي، البرازيلي، البلجيكي، أرمني، قوقازي، نيبالي، ملباري، كل ما يمكنك أن تتصوره موجود، وفي أكثر من مكان، وكان هناك تقليد في باريس كانت تقيمه الجمعيات الكبيرة جداً والتي تبنى مع بناء الحي، حيث تقدم أسابيع من مأكولات ومشروبات ومنتجات العالم، وكأنه عرس ثقافي، ومظهر حضاري يتعرف الآخرون على ثقافة بلد لمدة أسبوع كامل، ويتذوقون مما يأكل ويشرب، وما تعني له بعض الأمور في الحياة، وارتباطها بموروثه، وتعبر عن ثقافته.
أين أقف شخصياً من مسألة تجريب الأكل، بصراحة الريبة والشك والتردد هي أول الخطوات، تتبعها الأسئلة المخاتلة من التي تعنى ظاهراً بالثقافة، وهي في الحقيقة لمعرفة مكونات الأكلة ونوعها، ثم تأتي مرحلة الشم من بعيد، ثم التذوق بطرف اللسان، ثم المضغ الجيد لشيء لا أعرفه حقاً، ثم الطحن المتأني، ثم يأتي البلع في آخر المطاف، ثم الانتظار قليلاً للتفكر، وتجربة اللقمة الثانية، والسؤال بعدها إن كانت هي الوجبة الوحيدة! وغداً نتابع