بقلم : ناصر الظاهري
- أمس كنت أسجل حلقة مع الزميل أحمد الزين في برنامجه المميز «روافد»، وذهبنا إلى العين، وكانت درجة الحرارة 43 درجة، وفجأة تغير الجو، وهبت عواصف، ولمع برق، ودنّ رعد، وفي أعلى جبل حفيت انهمر مطر.. ومطر، وصارت درجة الحرارة فجأة 16 درجة، وصارت كل الأشياء جميلة مع المطر وبالمطر.
- حين ينهمر المطر.. تتذكر زماناً كانت فيه حارات تصحو بعفويتها، وتغدو للأولاد ميداناً أوسع، وللبنات فضاء أرحب، والجيران حرّاس لهم، لا «مغثة» من غريب، ولا تعال من قريب، كان الصغار يتبعون صوت المرازيب، ويسبقون «الخريوات» أو ماء السيل في تلك السكيك الضيقة، أو يعتلون «العراجيب» وكثبان الرمل المختزنة لون الشمس، ولون الارتواء، يصنعون من ثرى الأرض بيوتاً من ذاكرة وردية، حين ينهمر المطر تحضر كل أشياء «الوطر» القديم، وتهرب أوراق اليوم الجديد، لا حارات تضم الناس، بل بيوت، وبيوت، أبوابها متعاكسة، ونوافذها لامعة، ليس هناك شارع بينها يضم الدفء، وحكايات الأهل، ويحكي عن حالهم، لا تراب هناك ليبتل، ولا نخيل تجاور البيوت يمكن أن تهز رأسها نشوة بالمطر و«الحيا» لا أولاد بسطاء، حفاة، وفقراء، يمكن أن يعني لهم المطر شيئاً، ويمكن أن يغنوا له بتأتأة أو بسنين مترادفتين في الأسفل، وأخرى مخلوعة تخبئها الأيدي، اليوم كثرت «المغثة» من الغريب، وصار التعالي من القريب، والجيران ما عادوا حرّاساً لأولاد الجار من عيون الشر، وبراءة الأشياء والأمكنة روعتها مجتمعات الحديد، والمطر وحده ينهمر في الخارج، بلا حس للمرازيب، ولا أحد يغني معه!
- حين ينهمر المطر.. تتذكر تلك الشجرة القديمة التي تنتصف «الحوي» أو تسكن جنب جدار الطين، كان يغمرها المطر، ويثقل أغصانها المطر، ويحيي أوراقها المطر، ويكسوها فجأة لون الحياة، وبريق الماء، ولمعة المطر، تفرح العصافير الساكنة في أعشاشها بنفات المطر، تتذكرها كعمة آمرة في البيت، لا تحبها أن تغيب، وإن غابت حضرت مع المطر!
- حين ينهمر المطر.. تتذكر غرماء الطفولة، ورفاق العمر، تتذكر أشياء جميلة يبعثها المطر، أشياء غائبة، ولا تحضر إلا مع هيبة المطر، أشياء لها رائحة الوفاء مثلاً، أشياء فيها النبل في الأوقات الصعبة مثلاً، أشياء كنا نخبئها تحت وسادة الأحلام، ونصدّق وعدها وعهدها، ونبكي حملها وثقلها، ولا نأسف مثلاً، أشياء من «وطرنا» القديم ضاعت في وقتنا الجديد، ونأسف مثلاً، حين ينهمر المطر قد تذكر كل الأصدقاء، ولا تتذكر الغرماء، تعنّ عليكم بيوت من وقت ومطر وطين، وتلوم النفس والزمن والحنين، لو أنكم قدرتم أن تحوطوها بأساور من خشب وذهب ودموع العين!
- حين ينهمر المطر.. تتذكر صبية بعينها، تلك التي يعطي المطر لشعرها سواداً أكثر، ويعطي للخد لمعة أكثر، ويعطي لغزل الثوب العربي، والجسد البدوي تفاصيل أكثر، ويعطي للشفة السفلى ارتجافاً وبلاً أكثر، ويعطي لغمسة الحناء، وبركة ماء السماء، رائحة أكثر، حين ينهمر المطر تأتي تلك الصبية الشقية بكل تعب حضورها، من زوايا البيوت، وخبايا الذاكرة، وتتذكر سرورها وحبورها وفتنة عطورها، تتذكرها بوجع صبي يزاغيه دوماً المطر، ويكون الحب فيه أكبر وأكثر!