ناصر الظاهري
شلة الضياع هكذا أطلقنا على تلك الشرذمة المكونة من جنسيات مختلفة، لا يجمعهم شيء إلا السينما، والمشاركة في أحد مهرجاناتها الدولية، أما هم ففي كل واد يهيمون، ومن كل شِعب وواد آتون، وأنهم يسيرون بلا هدى، ولا يهتدون، صينية عجوز أطلق عليها الياباني الشاب صفة «ماما» لأن اسمها صعب الحفظ، ولو حتى ناديناها به فسمعها خفيف، والسماعة شغل الصين، ساعة تشتغل، وساعة تتعطل، ولا جدوى من تبديلها، فهي مثل سماعات الهواتف النقالة، لا الأصلي يدوم، ولا التقليد ينفع، الياباني الظريف اسمه يوحي لك بأنه من الأسماك أو الأصداف البحرية، هو مصور سينمائي مبتكر، لكنه لا يعرف مهنة أخرى، ولا ينوي تعلم مهنة غيرها، صينية أخرى ربما بقاؤها الطويل في أميركا أعطاها موهبة جديدة، وهي أولاً، التخلص من اللكنة الصينية التي يمكن أن تختصر الحروف كيفما تريد، وخاصة حين تنطقها بذلك الجرس المعدني، وثانياً أنها قدرت أن تخفف من درجات الاحترام المبالغ فيها حين الحديث مع الغرباء، شأن كل الصينيين، وهي كذلك مخرجة جديرة بالاحترام، من ضمن تلك الشلة، منتجة أميركية، تحاول أن تكون قيادية، وهذه من ملاحظات عديدة سجلها أصدقاء رحلة الضياع في برلين، وجميعهم لديهم ملاحظات على تلك القيادة، ووجهات نظر في نوعية القائد، لكننا جميعنا تواطأنا على المسكوت عنه، وأعطيناها فرصة لم تحلم بها في بلدها، وقد حاولت أن تشكرنا في البداية على هذه الثقة التي سرعان ما سحبناها منها، فمنذ بداية الرحلة وحين كنّا في محطة القطار السفلي، أظهرت مهارات لا فائدة منها، فقد أخرجت بطاقة ائتمانية لم تتعرف عليها ماكينة حجز التذاكر، ولَم يكن لديها احتياط نقدي، يمكن أن يسعف الفريق، وتعذرت عليها لغة يفترض أنها تجيدها، فظهرت أنها لا تجيد إلا لغة البغال، الآمرة الناهية والجازمة، لذا منذ لحظتها تعامل معها الجميع بمقدار أقل من التوقير، أميركي آخر دائم الشكوى، وأن لديه مرض السكري، من الدرجة الثانية، وأن علينا أن نخفف من مشينا، ونجعل سيرنا على هوى حركة «الجولوكوز» في دمه، وأنه يحتاج لنفيعة، وأكل خفيف كل ساعة وربع، وأنه محتاط له بحبات من الحلوى والشكولا إذا ما اقتضى الأمر، بصراحة كان يريدنا أن نكون جميعنا بصفة مربية ووصيفة ومرضعة، لم يكن هناك من تعتمد عليه، ويمكن أن يفضّ أي نزاع يمكن أن ينشب في ظرف دقائق معدودة، غير «سميث» حليق الرأس، وذي عضلات تربت وقت الشباب، ووقت الهروب من مقاعد الدراسة، وحده من كان يعتمد عليه ساعة الحزّات واللزمات، بقي شاب مكسيكي رقيق برقة المهنة التي يجيدها، موزع موسيقى بدرجة عالية، وإنسان خجول، ويفهم أكثر من كل المدعين في فرقة الضياع الليلي في برلين، لكن الخجل هو من يمشيه، من بقي أيضاً، آه.. مكلمكم، وهذا تعرفونه أكثر مما يعرفه أصدقاء مهرجان السينما في برلين الذين عدّوه مع أصغر الرفاق المكسيكي والياباني، وأنه تبدو عليه مهارات ضائعة، مثل عدم إتقان اللغات، وأنه يمكن أن يحل كل مشاكله بركوبه تاكسي، ويطلب منه توصيله للفندق في أي لحظة، ودون اعتبار لأي قيمة مادية.. وغداً نكمل