لو الحياة بالأبيض والأسود

لو الحياة بالأبيض والأسود

لو الحياة بالأبيض والأسود

 صوت الإمارات -

لو الحياة بالأبيض والأسود

ناصر الظاهري
بقلم - ناصر الظاهري

لو أن الحياة كانت مكونة من لونين فقط؛ لا يغشاها إلا الأبيض، ولا يسودها إلا الأسود، ربما حينها كانت منزوعة من الفرح، مفرّغة من البهجة، ولكانت في بياضها الباهر تُعشي العين، وفي حلكة سوادها تُعميها، الألوان خلقت لنجد للسعادة نوافذ وأبواب ودروباً عديدة، ولتضفي على دنيانا في أرضنا شيئاً من ذلك الرونق السماوي الذي تصطبغ به الجنان، لذا اللون لم يخلق عبثاً، وكل لون ناطق له لغته، قبل أن يفلسف الإنسان الألوان، ويطرح عليها من عندياته، ومن ثقافته، ومن موروثاته، فالناس كثيراً ما يمرون على الألوان في الحياة، ولا يتوقفون، إلا نادراً، وحين يجبرهم الوقت، ويجبرهم الموقف، ساعتها يتفكرون كم كان قاسياً ذلك اللون الرصاصي! وكم كان لون الزهرة مفرحاً! ولمَ اليوم كان الفجر ندياً، والسماء حانية بزخرف ألوانها الشاردة؟
هذه الألوان المتمازجة من الألوان الرئيسية بعضها ببعض بمقدار معين، ونسب معينة، لتعطينا لوناً مغايراً، وجديداً، لا نملك تجاهه إلا التأمل بعمق، والتنسك اللوني الذي يجعلك خاشعاً كالصلاة، خاصة حين ترى أعماق المحيطات والبحار، وتلك الأسماك المتناهية في ألوانها، وزهزهة بريقها، ولمعانها أو الشُعب المرجانية وتدرج ألوانها، وتبدلها وظلالها أو الأحجار الكريمة قبل وبعد صقلها، يمكن أن تدخل حديقة يابانية، فيقف شعر جنبك من روعة المشهد، وتزاوج الألوان، وذلك «الهارموني» الطبيعي الذي لا تملك إلا أن تقول: الله ما أجملك، وما أجمل صنعك، وتجلي قدرتك!
وليست الألوان البراقة هي وحدها من تعطي مثل هذا الانطباع في النفس، فمشهد مطر الغاب والوحل والخشب المبتل يعطيك لوناً لا يمكن القبض عليه إلا إذا اجتمعت تلك الثلاثية مع بعضها، وفي آن واحد، حتى أن لبعض الألوان رائحة، هكذا يقولون العارفون، السائرون بالحكمة وحمد الأشياء، لذا يعلو اللون الزعفراني بروحانية المعابد، وما يكنّ دهاقنتها من أسرار، في حين ينحدر اللون الزهري إلى مناطق فيها عبث البراءة أو مناطق آثمة بالرجس، لمَ اللون الأخضر إن جسه ماء رأيته ريّاناً مخضراً بلون الارتواء؟ وكأن ثمة لمعة جلبها الماء معه، فيزهو اللون الأخضر ببريق مختلف، لم يكن فيه من قبل، لمَ الألوان هي مثل القلوب ما تعارف منها أتلف، وما تنافر منها اختلف؟
هناك بعض الألوان، وكأنها جالبة للمال، كاللون الأصفر، وما يتبعه من ذهبي وفضي ونحاسي، هناك ألوان منسجمة مع حالها، وحيادية في مواقفها، ولا لها أي نوع من الحظ، وحسن الطالع، مثل متدرجات البني أو متدرجات الرمادي، في حين اللون الأحمر يقول: ها.. أنا، أنا، القوة والغطرسة وحتى دليل المال والسعادة عند بعض الشعوب، مسكين هو اللون الأزرق، جميل وبارد كنسمة، لكنه حين يتوحش إلى الزرقة الليلية، تظهر له هيبة أخرى، الأسود والأبيض متضادا الحياة، وزاد عليهما الإنسان أعباء، فصار يتمثل بهما ويبادل في أدوارهما في فرحه وحزنه.
اللون البنفسجي لا شك أن له هيبة غير عادية، استطاع أن ينتزع مكانته من بين كل الألوان، فهو يقترن بالسكينة والهدوء، وطمأنينة الروح، لذا يتقشب به رجال الدين المسيحي في المناسبات الكبيرة، وفي القداس، وكثير من العائلات المالكة تتزين به، ولوحده، فغالباً لا يخالطه لون، وهو للفرح المتزن، وللعمر الراكز، وللحكمة، وهو من الألوان التي يمكن أن تحمل النقيضين والمتضادين، لذا حينما يحضر الموت، وجلال هيبته، وقدسية مكانته، يحضر اللون البنفسجي، والورد البنفسجي الذي يبقى حد اليباس مركوناً بجانب شواهد قبور الأعزاء يواسي وحدتهم الباردة!
للاتحاد .. اليوم ذكرى تأسيسها الـ51 .. هذه الجريدة التي بدأت بالتعب وبالأبيض والأسود، لكنها أضفت على حياتنا ألواناً متعددة من البهجة، والمعرفة، وتأصيل الأشياء طوال سنينها، وها هي اليوم تذهب كعادتها في جمال الأشياء وألوانها لتجعل من أيامنا أكثر  قرباً للخير وللوطن وألوان التسامح الإنساني.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لو الحياة بالأبيض والأسود لو الحياة بالأبيض والأسود



GMT 03:30 2024 الأحد ,22 أيلول / سبتمبر

القطب التيجاني... وحماية المستهلك الروحي!

GMT 03:11 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

تفّوق إسرائيل التقني منذ 1967

GMT 03:10 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

قد يرن «البيجر» ولا يُجيب

GMT 03:08 2024 الجمعة ,20 أيلول / سبتمبر

لبنان... الرأي قبل شجاعة الشجعان

GMT 01:24 2024 الأربعاء ,18 أيلول / سبتمبر

قصة الراوي

GMT 01:32 2018 الثلاثاء ,02 تشرين الأول / أكتوبر

طالبات مواطنات يبتكرن جهازًا للوقاية من الحريق

GMT 05:07 2019 الأحد ,28 إبريل / نيسان

الفيصلي يقف على أعتاب لقب الدوري الأردني

GMT 08:12 2018 الأحد ,16 كانون الأول / ديسمبر

اكتشفي أفكار مختلفة لتقديم اللحوم والبيض لطفلكِ الرضيع

GMT 04:05 2017 الثلاثاء ,25 إبريل / نيسان

فريق "العين" يتوّج بطلًا لخماسيات الصالات للصم

GMT 04:55 2020 الثلاثاء ,15 أيلول / سبتمبر

أحمد زاهر وإبنته ضيفا منى الشاذلي في «معكم» الجمعة

GMT 18:24 2019 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مجوهرات "شوبارد"تمنح إطلالاتك لمسة من الفخامة

GMT 05:40 2019 الأحد ,20 كانون الثاني / يناير

هبوط اضطراري لطائرة متوجهة من موسكو إلى دبي

GMT 22:49 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

منزل بريستون شرودر يجمع بين التّحف والحرف اليدوية العالمية

GMT 21:38 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

حامد وخالد بن زايد يحضران أفراح الشامسي والظاهري بالعين

GMT 04:11 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

ظهور القرش الحوتى "بهلول" في مرسى علم

GMT 00:56 2018 السبت ,15 أيلول / سبتمبر

تعرف على فوائد وأضرار الغاز الطبيعي للسيارات

GMT 00:14 2015 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

صيحة الدانتال لمسة جديدة للأحذية في ربيع 2015
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates