بقلم : ناصر الظاهري
- فكرة أن يعزمك بخيل، ويصر على العزيمة، وأنت تتهرب منه شفقة على قلبه الذي يمكن أن يهبط، وعلى جيبه الذي يمكن أن يشق، وحين تتم الفكرة تظل في الموقع الأضعف، تخشى أن تطلب شيئاً غالياً فيصيبه تلبك معوي أو تكون نفسك تشتهي شيئاً بعينه، وهو يقلب ناظريه من بعيد في قائمة الطعام وأسعارها الجانبية، والنتيجة لا تستمتع أنت بالأكل، ولا هو يبيض وجهه، فتمضي العزيمة والمضيف البخيل «ييورط ويتحمض» وهو يراقب حركة الأمعاء الغليظة عندك!
- لا أحب الفقر على النساء، وحدهن لا يليق بمقامهن الفقر، فجأة إن رأيت واحدة جثا عليها الفقر حتى تتناسل أهداب قميصها القطني، أشعر بغبن الحياة، وأشعر بأنني مسؤول عنها، وأشد ما يضايقني في أوروبا أن ترى النساء يدفعن حسابهن لوحدهن، فتجد الواحدة منهن تفتح شنطتها الكبيرة لتصل لشنطتها الصغيرة ثم تعد ورقاً نقدياً، وتكمل عليه بخردة معدنية، والرجل وكأنه لا يخصه الأمر، ولو كانت زوجته الحامل، ولو كان هو «ساحي شعره المصبوغ على قتر أو برد أو فارق على جنب» ولابس قميص أزرق مخطط لا يتناسب وليل أوروبا البارد!
- ما أجمل أن ترى ظل شبحك يسبقك على الأرصفة اللامعة في طرقات باريس، في ليلها البهي، والمطر يتساقط بخجل قائلاً للمدينة التي يحب، نامي..
نامي على وقع الماء، وصدى أغنية محشرجة لـ«أديث بياف»، وسكون البرد في المعاطف، واحتفاء الشجر بالريح!
- منظر المطربين العراقيين الجدد، وهم يشبهون المصارع «عدنان القيسي» وزناً وعرضاً، عدا تشكيلات الملابس البراقة التي يأخذونها على عجل عند أول محل قريب منهم، وقصاتهم التي يشعرونك فيها بأنهم يقلدون موضة منتهية منذ سنوات، لقد شاهدت مطرباً منهم بكبر «الماشوه» يقف على صلف ملح، ومرة يرقد على حصاة في البحر، وهو يغني مبسوطاً، ولا تعرف لم كل هذا الفرح «المتين»!
- في مطعمي الصغير في الزاوية الملاصقة لواجهته الزجاجية أجلس كعادة أول يوم وصولي لباريس، استمتع بأكله المميز، فهو يقدم صحناً واحداً لا يغيره، وليس عنده غيره، أجلس على كرسيه الخشبي، وطاولته الصغيرة في حضني، أرقب الناس والوجوه، شاب وصديقته الجميلة يقرآن قائمة الطعام المعلقة في الخارج، تمر سيارة بيضاء فاخرة، فيها شبح رجل ربما عاجز.
. وحيد.. ممل.. مكتئب، يمر مع تلك الوحدة وضجر التملك، يضحكان من أسعار المطعم، وتعقد الفتاة الجميلة حاجبيها، مندهشة من اليورو وعلاقته باللحم، ينصرفان لأنهما قررا أن ليس بمقدورهما دفع فاتورة العشاء مشاركة، يعتمران قبعتيهما، ويركبان الدراجة، ويضحكان بسعادة، يتخطيان تلك السيارة الماجنة، غير مكترثين بها، وهي تخطط الشارع بتكبر وعجرفة تجرح الإنسان ورضاه!
المصدر : الاتحاد