بقلم : ناصر الظاهري
أوروبا هي الوحيدة الجميلة صيفاً وشتاء، إن زرتها صيفاً بحافلة سياحية أو أخذت ذلك المركب في رحلة نهرية عبر مدنها أو تنقلت عبر مطاراتها الفندقية مباغتاً شتاءها الأبيض الذي يفرض سحره على النفوس، والمدن والنَّاس الماكثين أو العابرين، ثمة جمال من نور الأبيض يغشى الأمكنة في أوروبا، ويمنحها نهاراً من نوع آخر، وإن كانت الأشجار عارية، منتظرة أن يكسوها بثلجه القطني، إلا أنها تخبئ فرحها، والأجساد تبقى متدثرة منتظرة بهجة الخروج، حينما يسمح ذلك «الجنرال» الأبيض بخروج الدفء، وتلك الحميمية التي تقرّب الناس، والنفوس، هي أغنية الشتاء البيضاء.
بعض المدن وحدها من يليق بها الدثار الشتوي الأبيض، مانحة العشاق رائحة احتراق الحطب في المواقد، وشواء الكستناء، وما تعتق في أقبيتها الحجرية، تظل متلهفة نزول ندف الثلج في بداية مشواره المتراقص بين السماء والأرض، وأينما يشتهي أن يمكث في الأمكنة، يبقى المقعد الخشبي في الحديقة العامة مهجوراً، يتذكر شاعراً مر من هنا، وجلس يهدهد قصيدته لتنام، يظل يتذكر في بياته الشتوي عاشقين عجلين، يريدان أن ينهيا كل شيء بعجل، ويتركا ضحكاتهما، وأغنية كانا يتبادلان سماعها تؤنس المكان، لكنه في وحدته الشتوية يستقبل فجأة القطن المائي، ويلونه بالأبيض، فيفرح بمداعبة الشتاء وما ينثر من خيراته البيضاء.
لبعض من المدن وحدها جلال الشتاء، فتكون زاهية، وإن كانت الملابس تثقل أنوثة نسائها، وتجعلهن متشابهات كعاملات في مصنع للبلاستيك، وثمة كآبة تحلّ على محلات الصيف البحرية العارية أو تلك التي تحب أن تظل مكشوفة لمن يرتادها، وحدها المقاهي التي تحتل الأرصفة يمكنها أن تعطي لكل فصل رقصته، ففي صيفها تتمدد على الأرصفة الحجرية، وتلاقي زبائنها من بعيد، وفي شتائها تختزن الدفء، ورائحة القهوة الساخنة، وإن كان هناك شيء من مطر، فكل نوافذها عيون، وكلها ذاهبة نحو تلك الالتماعة التي تبرق كخد واحدة نعشقها.. وننسى، ثم نتذكر بقوة أننا فعلاً نعشقها ولا ندري.
ما يصنع الثلج بالناس في فرح أيامه، فجأة يجلب الحيوية معه، وكأن شيئاً نثر على الناس فيه طاقة من خير وحبور، ويتذكر كل شخص الطفل الذي فيه، والذي لا يعني شيئاً آخر غير الفرح وصبيانية الأمور، الثلج يذكرّ الماكثين أو العابرين بمكانهم الأول، حينما كان يحلّ الشتاء أو حين يتبعه ثلج أو مطر، فالجبل له هيبته في الشتاء، وحين يثلج، ولأهل البحر شتاؤهم الهادر مع تلاطم الموج الذي يتكسر عند حافة صخورهم الصلدة، ولأهل الصحراء شتاؤهم الذي يكسر العظم، ومطرهم باعث الحياة.. كيفما كان الشتاء فهو شيخ جليل، له مهابته، وله كل هذا الحضور، وإن غاب فرض تذكره في عواصم أوروبية دافئة بنفسها ومن نفسها، هي نظرة الغريب، وعاشق الأسفار، وصديق المدن غير المتعالية.. وغداً نكمل..