بقلم : ناصر الظاهري
كانت تتسرب لكلينا مشاريع قصصية وكتابية، تفرح قلبينا، تبقى الوجبات التي تليق بجثتي صديقين متعافيين، وتبقى المطاعم الدسمة التي تجعل الأيدي الممتدة لوجباتها تلك الرعشة التي لا نتصنعها، ولـ «خليل» رعشة يد وأصابع تضحكني، حين يستقبل عروة باردة أو يلامس يداً مخملية، أو يناظر لصحن آتٍ لطاولتنا، كانت الحياة جميلة وحلوة، وكنّا لا نعفّ عن شيء، تجمعنا «وذافة» من نوع لا نخجل منه، وكانت تعليقات النساء وهن عابرات بعجل أو ماشيات مشية الحجل بلا ريث ولا عجل، مصدر تعليقاتنا الضاحكة.
ياه .. يا خليل كم أفتقد تلك الليالي، صباحات مدن وأمسياتها، وكنت أفتقد حضورك في مدن ليتك كنت فيها ومعي، كنت أسرّب لك شيئاً منها في بريدك الإلكتروني البارد أو في صفحات ليست ورقية كنت تمقتها، لكن الحياة أجبرتك عليها، متخلياً عن تلك الأصابع التي تفرح بخط قلم «البيك» صديق موظف كان يوماً في الداخلية، وفِي مواردها البشرية، كنت وكانت الوظيفة أثقل شيء على الروح، لأنك تعشق التحليق والأمكنة الواسعة، وذاك الفضاء الذي يرجعك لمدينتك «الخليل».
لم تكن كاتباً عادياً، ولم تكن يوماً غير مشاغب باتجاه الحياة ومداها الملون، شخوص قصصك نبعت من رائحة المكان، من عرق عمال كانوا يعيشون ويغبشون نحو رزقهم الحلال، في سوق الخضرة والفاكهة، في وسط عمّان الضاج بحقيقة الحياة، الآن تفتقدك عمّان، ويفتقدك أناسها الحقيقيون، ووقع أحذيتهم الخشنة، وصمتهم المتواري خلف معاناتهم، كنت تقرع أجراساً في نهاراتهم، وتسيّر مواويلك في ساعات النشوة تجاههم، ولهم بذاك الصوت الجبلي الذي يليق بذلك الصدر العريض الذي منحتك إياه الحياة.
سنوات أخيرة، وملحقة، لم أكن أريد أن أرى «خليلي» بغير تلك العافية، حين فقد البنت البكر، وحين غاب في غسيل الكلى، وحين كسر الظهر، وتغيرت تلك المشية المستقيمة التي تليق برجل تجاوز المتر وثمانين، وحب الممشى في الطرقات المبتلة بعشق المطر، وزهو المدن، وحين رافقتك مرة في الغسيل، اللعنة حين تفشل الكلى، وحين تخون بك أعضاء الجسد الممتد
كقامة شجرة سنديان، وكنت تتغلب عليه بالضحكة والسخرية وبالقراءة، كعادتك حين تطوي غلاف الكتاب كعادة تلميذ لم يكن دوماً نجيباً في الدراسة، وواعياً بالحياة، يومها انكسر شيء فيّ، وحين غادرت عمّان، قادماً من فلسطين التي لم ترها، لكنك شممت رائحتها في حقائبي، وذلك الحسن منها الذي سرقته عيناي على عجل، وفي ملابسي المتأنقة دوماً، والتي لم تكن تعني لك شيئاً، قلت: كأني رأيتها في بهجتك، وترقرق دمع عينك، حين تكون كطفل نزق، يومها ودعت «خليل» وودعت عمّانه، وشيء كبير وكثير فيّ انكسر، وثمة غيمة من لون رمادي كانت تحلّ على الرأس، ولا تريد أن تفارقه، لكني لم أرد وداع «خليل» ذاك المحب للحياة وفرحها...