بقلم : ناصر الظاهري
كانت الجغرافيا من المواد المحببة لنفسي، ولكن حين أصبحت صعبة في الجامعة، وتبدلت عن جغرافيا المدرسة، لم نعد أصحاباً، ولكنها كانت وما زالت تشكل لي المحفز على السفر، وهي الذاكرة الطرية التي تجعلني ألج المدن بتلك الفرحة، وذلك الشعور العميق في اكتشاف المدهش، خاصة حينما تكون تلك المدن مغرقة في التاريخ، وتكاد لا تفارق حكاياته، وإن غاب عنها، فلا بد أن يعود ليحكي الحكاية من جديد، كانت ثمة ثلاث مدن إن ذكرت، ذكرت متتالية، وإن عنّت على الذاكرة، جاءت تتسابق في الرأس، حيفا ويافا وعكا، وربما كان لمدرس الجغرافيا الفلسطيني دور في حفظ وصفه الشفهي لهذه المدن، وجمالها، وما تتصف به من مصايف،
وبحر يستدعي الناس والحياة، وتلك الفواكه والحمضيات التي تشتهر بها، لقد ظل ذلك الحنين الجغرافي ساكناً في الصدر، يفزّ كلما طرق أذني ذكر اسم من تلك المدن، غير أن الأيام العربية، وانكسارات الذات، وتلك الهزائم المتلاحقة، جعلت تلك المدن تتوارى عن تفاصيل أيامنا، حتى نشرات الأخبار، ما عادت تتحدث عنها، وكأنه أريد لها أن تغيب للأبد في تماهي الخريطة الجديدة، باعتبار ما حصل، حصل بشكل مطلق، وأن لا حديث عنها بالعربية، أصبحت تلك المدن الثلاث واجهة سياحة تصدر بالعبرية واللغات الأجنبية، وقد أدركت ذلك بعد أن عشت في أوروبا، ورأيت ما تفعل السياحة في تغيير منطق التاريخ، واحتواء الجغرافيا، لكن تلك المدن التي كانت تعيش في الذاكرة من شرح ذلك المدرس الفلسطيني، ظلت عصيّة على السفر، فقط كانت تتراءى لي من خلال الكتيبات السياحية، وما تصدره من منتوجات، ومأكولات، وفواكه في المحلات الكبيرة في باريس، معبأة وجاهزة للمستهلك تحت منتج إسرائيلي دعائي، فذقت طعم ما تنتج قبل أن تراها العين، وشعرت أن للبرتقال الذي لا أحبه كثيراً، طعماً مختلفاً، ورائحة ذات شجن، ولم يكن لنا من مرجع للتذكار إلا تلك الخارطة القديمة التي وزعتها يوماً مجلة العربي، كجزء من استطلاعات، «أعرف وطنك أيها العربي».
وذات سنة سنحت لي فرصة معانقة أرض فلسطين لأول مرة، وكانت تلك المدن الثلاث جزءاً من قائمة المدن الفلسطينية الكثيرة التي كنت أسمع عنها في نشرات الأخبار فقط، والتي يجب عليّ أن أراها للمرة الأولى، وربما كأنها الأخيرة، وحينما وطئت تلك الأرض، كان صوت مدرس الجغرافيا الفلسطيني هو الذي يرّن في الأذن، ويوقظ الذاكرة، يسبقه ويتبعه وجع تاريخي، لم أستطع أن أتخلص منه، ولا أريد، خاصة حينما رأيت حيفا ويافا وعكا كمدن شاهدات على تقلبات الزمن، بحيث كانت العين الناظرة مصوبة على عمق مسامات السُحنة الفلسطينية الغائبة والمغيبة، كان همي أن أرى الإنسان، وساكن تلك المدن الثلاث، هل تغير مثلما تبدلت هي!