بقلم : ناصر الظاهري
منذ أن وعيت على الدنيا، وأنا أسمّي «خميس بن ناصر» عمي، رغم أنه كان شاباً وقتها، ولم يتزوج بعد حينها، ويسكن في الجانب الغربي من منزلنا القديم الذي كان مركض فرس، ولم أعرف أنه ابن عمي ناصر الذي تسميت باسمه، والذي أطلقه عليّ والدي، بعدما توفي أخوه الذي كان مضرب المثل في الشدة وقوة البأس، وثمة حكايات جميلة أعرفها وسمعتها عنه من
الناس، تولى أبي أصغر أخوانه التسعة حضانة وتربية ابن وبنت أخيه اليتيمين حتى تزوجت «كنّه بنت ناصر» بنت عمي، من «حياة» إبراهيم، ثم تزوج ابن عمي من «روية بنت سعيد»، والذي بقيت أناديه بعمي كما اعتدت منذ الصغر، ورزق منها بأولاد كثر، وحين أتى «الجز» على بيوت وسط العين في بداية السبعينيات، قرر أن يستقل ببيت في الجاهلي، وذهبنا نحن إلى المعترض، كان هذا أول الفراق، وأول غصة أطعمها في الحلق، رغم أن الجاهلي والمعترض بينهما خطوات يقطعها الصبي في دقائق معدودة.
عمل عمي صغيراً، كان يومها مع «حياة» غريب، وهو بمثابة وكيل أعمال الدائرة الخاصة للشيخ زايد رحمه الله تعالى، وكان شاهداً مع عمي على بناء قصره في العين، ومن ثم قصر المقام، وزراعته، لقد ظل عمي يسوق دون رخصة قيادة السيارات الثقيلة والخفيفة، وبعدها بسنوات طوال، طلبوا منه أن يحصل على رخصة بعد أن أصبحت إلزامية، كان يومها يضحك من مفارقات الدنيا الجديدة، وكنا نراه متعجبين كيف يرقى النخل الطوال بالحابول، ويخرف من رطبها أو يجدّ عذقها أو كيف يسوق سيارة «بيت فرّت»، كان مثالاً للرجل الذي يعمل، ويعمل دون تعب أو شكوى، ولا يجد صعوبة في عمل أي شيء يوكل له.
سنوات مضت، حتى اكتشفت أن عمي يحمل ذاكرة حافظة عن الناس والأشياء والأمكنة، ذاكرة تغطي مساحات كبيرة، وسنوات كثيرة، وحين كنت أجلس عنده، كثيراً ما أخرج بفائدة أو أجد ضالة أو انتفع بمثل قديم أو مفردة عامية غيبتها الحياة الجديدة، وكل ذلك يخرج بروح مرحة، وبطريقة مزحة، لذا كان أحد الحكائين المهمين في فيلمي، «في سيرة الماء.. وَالنَّخْل والأهل»، لأنه عاصر حياة الكدّ والتعب وحرقة العطش، وحياة التغير والتبدل، وما يصيب النفس من عطب، نتيجة غياب المُثُل، وفقد الأشياء لبراءتها، والأمكنة لطُهرها.
لم أكن أتخيل أن عمي سيهرم يوماً، فالصورة في ذهن الصغير تبقى على حالها، ولا يريد غيرها، ولو فرض الزمن سطوته، واللحية «المخنجرة» والشارب، لم أكن أتصور أن أشهدهما، وقد رعى الشيب فيهما حتى تحولا إلى حقل من الرماد، كما لم أكن أتصور أن أراه يوماً يئن من وجع أو يشكو عضالاً أو لا يسرح مبكراً للعمل.
بالأمس.. فقدت ابن عمي، والذي ما زلت اسمّيه عمي، تاركاً تلك المساحة الكبيرة في الرأس التي كان يعبئها بذاكرته الغنية، ومفرداته الضاحكة، وتاركاً أيضاً تلك الغصة الثانية التي لها في الحلق طعم الحنظل!
المصدر : الاتحاد