بقلم : ناصر الظاهري
في البلدان المترامية الأطراف مثل أستراليا، أو بلد يضرب عميقاً في تاريخ الوجود الإنساني، مهد البدايات مثل الهند، أو بلد تعرض لهجرات أعراق، وتبدل حضارات مثل إندونيسيا، أو بلدان تقبع منذ آلاف السنين في غابات ممطرة مجهولة، يعيشون هم وحيوانات الغاب العيشة نفسها، معتمدين على الفرائس والصيد، مثل أفريقيا أو بلدان منسية في أميركا اللاتينية، إن استطعت أن تسرق من وقتك، وتتكبد عناء ووعثاء السفر، فلا تقصر أن تعيش لحظات مع السكان الأصليين أو السكان الباقين كآخر سلالات قبل الانقراض، والذين أصبحوا اليوم يتعظون بما حلّ بغيرهم مثل الهنود الحمر الذين تناثر ريشهم ورماد أجدادهم في البراري أمام هجمة الغربي المتوحش والمتأبط البارود، وبأطماعه في البحث عن أرض الذهب والكنوز المخبأة والتي لا يعرف الأهالي الأصليون قيمتها ومقدارها، هؤلاء الأقوام الباقون والذين ما زالوا بعيداً عن التمدن والتعليم والطبابة العصرية يعيشون كما كان يفعل أسلافهم، فهم منعزلون، يمارسون طقوسهم الدينية البدائية، والتي غالباً ما ترتبط بالطبيعة والخوف من كوارثها أو مظاهرها الموسمية، والحياة عندهم في غالبها مشاع بطريقة أو أخرى، يحميهم ويحكمهم السحر والشعوذة وما يخبئه الظلام للإنسان الخائف، هؤلاء الذين بقوا على قيد الحياة من عصور بائدة، نتيجة الحروب والمجاعات والهجرة والنزوح للمدن، ومعرفة التحضر أو نتيجة الانصهار مع الغرباء في مجتمعات متحولة ومتأثرة، أصبحوا اليوم من أبرز اهتمامات المنظمات الدولية التي ترعاها اليونسكو، حيث تحاول أن تصون ثقافاتهم الشفهية وتراثهم غير المكتوب، ولغاتهم المحكية، وتحاول أن تتعاون مع حكوماتهم في توفير الأجواء البدائية، وإبعاد الجانب المتعصرن عن تفاصيل أيامهم، لكن دائماً ما يكون الزمن هو الفيصل، وهو الذي يخط للآخرين دروبهم في الحياة، فقد رأيت بعض من تبقى من إنسان إندونيسيا الأول، يمشي حافياً وسط الغاب، ويأتزر بخرقة غير مخيطة، عار من فوق، ولَم يعرف المستشفى ولا المدرسة، ويتزنر بأدوات حديدية قاطعة للدفاع عن نفسه أو اقتناص صيده، يحمل «موبايلا» ويتحدث مع أخيه المتسلق شجرة غاب طويلة، بدلاً من ذلك النداء والصياح الإنساني الذي يتجمع بين الكفين، وينطلق من رئتين سليمتين، كما أن إنسان أستراليا الأصلي تجده بلونه المحروق كخشب أبنوس يستقل سيارته المكيفة وسط العاصمة، كاهنة المعبد لأقوام الهند القدماء، والمتمترسين في غابة بجنوب الهند، تستقل الحافلات العامة، وتراجع حسابها البنكي أول كل شهر، إنسان أميركا اللاتينية نزل من علياء الجبل، وحاذى السهل، وفجأة سرقته المدينة.. إن المراهنة على أن يبقوا كما فعل نسلهم منذ أقدم العصور، أمر قابل للشك، فهجمة عصرنا الحديث هي الأشرس والأقوى والأسرع في مسيرة الحياة والحضارة الإنسانية.