بقلم : ناصر الظاهري
ما إن تصل «بيشكيك» حتى تشعر بتلك الراحة التي تشبه زيارة قرية الأهل أو منزلكم القديم، هناك نوع من الأنس في الأشياء، ولا شيء يوحي بالوحشة أينما حللت، يكفي أن عُملَتهم اسمُها «سوم»، وربما لها امتداد من العربية حيث السوم المكاسرة والمساومة، ومعرفة السعر، كان المساء المتثائب في ذلك المطعم القيرغيزي المبني على هيئة خيمة «يورت»، والمصنوعة من الأخشاب ومن وبر الصوف، وكأنها محطة لصيادي الوعول الجبلية، هذه الخيمة هي شعار قيرغيزستان، وإحدى متعلقات القيرغيزي المتنقل بين السهول والهضاب وحتى الجبال، كل شيء هنا منتج من طبيعتهم المتنوعة والخلابة، وما يدخل السرور على نفسي، ويفرح قلبي حينما أدخل مطاعم المدن التقليدية أن أرى فرناً فخارياً مشتعلاً، وواحدة من النساء المسنات والسمينات بالعافية جالسة بجانبه، فهذا يعني أن الخبزة ستخرج ساخنة طازجة، وهي تكفيني أحياناً عن كل شيء، تنوعت الطاولة في ذاك المطعم التقليدي بأصدقاء من مدن مختلفة، منهم من أوزبكستان ومن كازاخستان ومن قيرغيزستان، فأوكلت المهمة لهم، لأنهم يعرفون طبيعة الأكل المتشابهة، فتتالت الأطباق مثل: «شبرمق، ولجمن، ومانتي، والأكلة المشتركة لتلك الجمهوريات بلوف» الذي يشبه الرز البرياني والمجبوس مخلوطاً ببعضه بعضاً أو هو قريب من «الباييه» الإسبانية، ولكن دون الأكلات البحرية، فعادة تقدم بأنواع من اللحوم، وللضيوف أو في فصل الشتاء تقدم مع لحم الخيل، فكان هذا شرطي الوحيد أن لا يعتبروني ضيفاً، ولا يقربون لي لحم الخيل، ولا حليبها «قميز»، أما ما تبقى فإن النفس لا تعيف الطيبات من الرزق.
قيرغيزستان لا تحتاج من السائح غير خمسة أيام لأسبوع، ومن يعشق النهر والمنحدرات والغابات، والمياه الجارية بين الصخور، فهنا مبتغاه، لأنها أقرب إلى جنات الأرض، وإن صعدت إلى الجبال فالطريق الجبلي السالك محاطاً بالثلوج بارتفاعات مختلفة، أما السهول الخضراء والتي تجدها وكأنها مراعٍ للخيل لكثرتها وتنوعها، يمكن لنهارك أن ينقضي في ساحة النصر، وساحة «ألا تو»، وما يحيط بها من مبان، ونصب لعل أشهرها تمثال «مناص»، تلك الشخصية الأسطورية، وبطلهم القومي، يمكن أن تزور ساحة للرسامين، حيث يمكن أن تلتقط لوحة رائعة ومتقنة بمئات الدولارات فقط، هناك المتحف الوطني، وهناك الأسواق الشعبية مثل «أوش بازار» وغيرها، حيث كل أنواع الفواكه والمكسرات والشاي والزهورات والعسل والمخبوزات، والمنتجات المحلية التقليدية، لعل أثمنها أن تقتني قبعة «كالباك» الزي الرسمي للرجل القيرغيزي، حيث أدرجت هذه القبعة من ضمن الإرث الإنساني الذي يجب المحافظة عليه من قبل اليونسكو، يمكن ليوم بطوله أن تزور فيه بحيرة «إيسيك غول» وتعني البحيرة الحارة، والتي كنت أحسبها بحراً من طولها وامتدادها، حيث يصل طولها 182 كم، وعرضها 22 كم، وتعد من كبرى بحيرات العالم، ستنقضي الأيام، ولن تشبع من قيرغيزستان وجمالها وبساطتها.