بقلم : ناصر الظاهري
لما لا نتذكر إلا الصورة الأولى، والانطباع الأول عن المدن؟ وإن زرتها مراراً، كانت الصورة الأولى هي الحاضرة كشاهد، ذلك هو شأني مع موسكو التي أول ما زرتها أيام كانت مستعدة أن تقشر جلدها المنسلخ، كحية ضاق بها الجحر، وتريد أن تلمس الحجر، وتخبر الرمل، وهي تسعى على بطنها، كنت أرى موسكو مدينة بعيدة، وكبيرة، وقد تظلم الغريب باتساعها، كانت تأتيني في الأحلام ببردها القارص، وثلوجها التي لا تتوقف، وهواؤها يكاد يمشّط وجوه المعارضين، ومخالفي أمانة الحزب، حيث يكون النفي إلى البياض والوحدة التي تميت الشجر والإنسان، كان مشهدها السينمائي لا يخلو من دبابة عدوانية يمكن أن تدوس البيت بمن فيه من بشر، يمكن أن يختبأ مواطن تحت معطف المخبر الصوفي الوبر حتى تتوقف أنفاسه، يمكن لعربات عسكرية أن تشحن أرواحاً كانت تدبّ في الشارع بغية الإصلاح والمكاشفة والمستقبل، وتعود خالية بعد رحلة قصيرة، لم يكلف سائقها نفسه الالتفات إلى الوراء قليلاً.
كانت موسكو تتمثل لي بذاك الضابط المكتنز عافية وحُمرة، كبرميل فودكا لا ينضب بسرعة، وأسنان من ذهب متفرقة في الفك العلوي، وضحكة متحشرجة من التبغ الملفوف باليد، تفرحة الروبلات الآتية من طريق غير الوظيفة، ويمكن أن تزيد إن رمى كاتباً في دهاليز السجن مع عصابات المتاجرة بالعملة أو الساقطين أو لفق تهمة لفتاة في الجامعة رفضت اليد النجسة لكبير الحزب أو غيّب مهندساً عن حضن أمه وضحكات أخواته، طلباً للابتزاز والمساومة والعض في اللحم الغض!
كانت هكذا تهيم في الرأس، وتداعب المتخيل، غير أنها كانت أيضاً كتاباً جميلاً، وموسيقى باقية، وسينما مذهلة، حتى رسول حمزاتوف له من جلال الحضور والشعر والإنسان الكثير، كانت لوحات يتراقص اللون بالشقاء ببقايا هيبة إرستقراطية قيصرية، كانت هي مبدعين شاغبوا الرأس كثيراً وما زالوا، كانت حوريات لهن من طُهر المبدأ، ونبل الحضارة، ولهن قد كالخيزران، وقوام ريّان، ولا يشبهن إلا حالهن أو إخواتهن، كانت موسكو مدينة ترهب الجسد، وتحرك الروح، ويمكن أن ترسل شيئاً جميلاً من شعاعها لتقول لك: في صحة الطريق الجديد والقدم الحافية، وكأس من تَعنّى وحضر!
وحين وطئت موسكو لأول مرة بقدمي غير الطاهرة، غافلاً عن البسملة، ناسياً دعاء السفر، وفضل الدخول بالرجل اليمين، هالني كم هي كبيرة، وكم هي عجوز، وكم هي دافئة بالناس، وغير مقصرة في حق الغريب، هالني صدق التعاطي مع التفاصيل الصغيرة، وكأنها حقائق كبيرة، ولا مجال للمساومة ولو من أجل شيء كبير، هالني الإنسان الذي يأكل قوت ما أكتسب من يومه، وصادق مع نفسه، وفي صدره علم كثير!
موسكو اليوم.. غابت الهيبة، ولعب الأطفال على ظهور غواصاتها، وضحك الضباط المكتنزون لورق أخضر مكتوب عليه: «نثق بالإله» وشبع الناس بما لا يكسبون!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد