تذكرة وحقيبة سفر 1

تذكرة.. وحقيبة سفر (1)

تذكرة.. وحقيبة سفر (1)

 صوت الإمارات -

تذكرة وحقيبة سفر 1

بقلم : ناصر الظاهري

عاصمتان في صغري كنت أخاف أن أزورهما، وأخاف من بعدهما وحجمهما الجغرافي، وأخاف مما تبثان من أيديولوجيا متحاربة، واشنطن وموسكو اللتان تجلبان الصداع، ولا ترتبطان عندي إلا بمصائب قادمة، زرت موسكو أيام كانت تقشر جلدها المنسلخ، كحية ضاق بها الجحر، وتريد أن تلمس الحجر، كنت أراها مدينة بعيدة، وكبيرة، قد تظلم الغريب باتساعها، كانت تأتيني في الأحلام والأفلام ببردها القارس، وثلوجها التي لا تتوقف، هواؤها يكاد يمشّط وجوه المعارضين، ومخالفي أمانة الحزب، حيث يكون النفي إلى البياض والوحدة التي تميت الشجر، لا تخلو من دبابة عدوانية يمكن أن تدوس البيت بمن فيه من بشر، يمكن أن يمحق مواطن تحت معطف المخبر الصوفي الوبر، يمكن لعربات عسكرية أن تشحن أرواحاً كانت تدبّ في الشارع بغية الإصلاح والمكاشفة والمستقبل، وتعود خالية بعد رحلة قصيرة، لم يكلف سائقها نفسه الالتفات إلى الوراء قليلاً.

كانت موسكو تتمثل لي بذاك الضابط المكتنز عافية وحُمرة، كبرميل فودكا لا ينضب بسرعة، وأسنان من ذهب متفرقة في الفك العلوي، وضحكة متحشرجة من التبغ المحلي، تفرحه الروبلات الآتية من طريق غير الوظيفة، ويمكن أن تزيد إن رمى كاتباً في دهاليز السجن مع عصابات المتاجرة بالعملة، والساقطين، أو لفق تهمة لفتاة في الجامعة رفضت اليد النجسة لكبير الحزب أو غيّب مهندساً عن حضن أمه، وضحكات أخته، طلباً للابتزاز، والمساومة، والعض في اللحم الغض!

كانت هكذا تهيم في الرأس، وتداعب المتخيل، غير أنها كانت أيضاً كتاباً جميلاً، وموسيقى باقية، وسينما مذهلة، وشعراً له من جلال الحضور، وعظمة الإنسان الكثير، كانت لوحات يتراقص اللون بالشقاء ببقايا هيبة أرستقراطية قيصرية، كانت هي مبدعين شاغبوا الرأس كثيراً وما زالوا، كانت حوريات لهن من طُهر المبدأ، وقوام الحسن، ولا يشبهن إلا حالهن، كانت موسكو مدينة ترهب الجسد، وتحرك الروح، ويمكن أن ترسل شيئاً جميلاً من شعاعها لتقول لك: في صحة الطريق الجديد والقدم الحافية، وكأس من تَعنّى وحضر!

وحين وطئت موسكو للمرة الأولى بقدمي غير الطاهرة، غافلاً عن البسملة، ناسياً دعاء السفر، وفضل الدخول بالرجل اليمين، هالني كم هي كبيرة، وكم هي عجوز، وكم هي دافئة بالناس، وغير مقصرة في حق الغريب، هالني صدق التعاطي مع التفاصيل الصغيرة، وكأنها حقائق كبيرة، ولا مجال للمساومة ولو من أجل شيء كبير، هالني الإنسان الذي يأكل قوت ما اكتسب من يومه، وصادق مع نفسه، وفي صدره علم كثير!

اليوم.. لولا أساسات بناها المحاربون القدامى، لكان الضياع، وظل بيع وشراء كل الأشياء، وتورَم الضباط المكتنزون بورق أخضر مكتوب عليه: «نثق بالإلة»، وسقط الروبل، وشبع الناس بما لا يكسبون، فجأة تناثر كل شيء، بادئين بهيبة التاريخ، حتى لم يعد ثَمّ نبيل يحرس الشارع!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تذكرة وحقيبة سفر 1 تذكرة وحقيبة سفر 1



GMT 09:11 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

أحلام قطرية – تركية لم تتحقق

GMT 09:06 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

تذكرة.. وحقيبة سفر- 1

GMT 09:03 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

عندما تصادف شخصًا ما

GMT 08:58 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

اختبار الحرية الصعب!

GMT 00:41 2018 الجمعة ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

وماذا عن الشيعة المستقلين؟ وماذا عن الشيعة المستقلين؟

GMT 21:45 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

أترك قلبك وعينك مفتوحين على الاحتمالات

GMT 20:00 2016 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

مطعم "هاشيكيو" الياباني يغرم كل من لا يُنهي طعامه

GMT 13:11 2019 السبت ,14 أيلول / سبتمبر

"جيلي الصينية" تكشف مواصفات سيارة كروس "جي إس"

GMT 05:09 2015 الخميس ,05 آذار/ مارس

انطلاق فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب

GMT 05:58 2015 الثلاثاء ,10 شباط / فبراير

سلسلة "جو وجاك" الكارتونية تطل عبر شاشة "براعم"

GMT 22:28 2017 الأربعاء ,25 كانون الثاني / يناير

جورجينا رزق تبهر الأنظار في أحدث إطلالاتها النادرة

GMT 21:17 2017 الثلاثاء ,18 إبريل / نيسان

حارس نادي الشعب السابق ينتظر عملية زراعة كُلى

GMT 22:33 2013 الأحد ,28 إبريل / نيسان

"إيوان" في ضيافة إذاعة "ستار إف إم"

GMT 13:10 2013 الجمعة ,08 شباط / فبراير

الحرمان يطال 2.3 مليون طفل في بريطانيا

GMT 07:27 2020 الجمعة ,10 تموز / يوليو

"إم بي سي" تبدأ عرض"مأمون وشركاه" لعادل إمام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates