بقلم - ناصر الظاهري
السفر تحت جنح غمائم ماطرة أو سماء هاطلة، السير على أرصفة من حجر مبتلة لامعة، الاحتماء بمقهى كان يسرّب لك أنشودة المطر من خلال نوافذ ساهرة، متعة تلك الحدائق العامرة، ورائحة أوراق الشجر حين يبلّلها الماء، وحين تزاغي أجنحتك المسافرة، تستدعيك لتبصرك أن المطر في المدن أغنية ثانية.
- مطر في ليل «بودابست»، ونشوة عشاء في قلعة تاريخية، وذاك الصمت الخاشع بين المطر والحجر، والسير على دروب الخيل العتيقة تنتقي لحذائك اللامع أماكن لم تغمرها المياه، تبدو في مشيتك تلك كراقص باليه بدين أو مخفوراً بما تعتق، تترنح كسجين حزين، ليلتها كان المطر، وكانت تلك العناقيد المتدلية من ثقلها تقطر عنباً مصفى، فتتلاطم أمواج بحور الشعر لسعدي والشيرازي والخيام ابتهاجاً بظل مولانا جلال الدين الرومي البارد، والذي يبارك تلك الجدران الحجرية، صاهلاً بصوفيته: «مرده بدم.. زنده شدم.. وز طرب آكنده شدم»، أتيه فرحاً لأني بعثت من الموت إلى الحياة.
- مطر في باريس كرذاذ على عنق أنثى، يباغتها، فيجد كل النوافذ والأبواب مفتوحة له، باريس لا تخجل من مطرها، وحدها من تضفي عليه شيئاً من ألقها، كانت صباحات سترت شيئاً من مطر الليل، وأمسيات باحت لذلك القادم بطُهر الأشياء، الناثر الخير على قلوب العشاق، ليس مثل مطر في ليل، وفي باريس، لا تتقيه إلا بشعر امرأة خبأت فيه عطرها.
- لا فرح يذكر لمطر لندن، ولا لمطر في الهند، ولا لتلك المدن الآسيوية التي تخبئ أطفالها ومئونتها إنْ دنّت رعودها، وبرقت سماءُها، لا نشوة لمطر يبقى أياماً طوالاً في مدن تشعرك أنها تهرب منه، وحدك كان يعني لك مطر تلك المدن، وكأنه أغنية أزلية بين الأرض والسماء، وحدك كنت تترنم بفرح تلك المفاجأة الماطرة.
- لمطر الصحراء براءته، مثل ماء على حرقة العطش، مثل التقاء الأشياء بصدق، مثل فرح جماعي لا يتكرر، يوسم الكل والجميع بدغدغة باردة، وكأنه يوقظ الضحك الساكن كرماد في الصدور، يعيد ترتيب الكل والجميع، ويعطيهم رونق ألوانهم حين كانت الحياة صلصالاً يتشكل، مطر الصحراء إنْ انقطع دعوا وطلبوا وألحوا في الدعاء وسجدوا، وإنْ نزل قامت له طقوس ونيران وأغانٍ، ورقصات كانت عطشى.
- السفر تحت صبيب المطر، والسفر في المطر، وما يجلب من تداعيات تخبئها الذاكرة له، هو سفر من نوع آخر، ولا يتكرر.