بقلم : ناصر الظاهري
لولا الأسفار لكنت غنياً بالمال، فقيراً في الحال، غير أنني فضلت غنى الحال عن المال، فكانت الأسفار المتتالية والمتتابعة، والتي لا أحب أن تنتهي، فلا أحد يدري عن الرحلة الأولى له في الحياة، ولا الرحلة الأخيرة، وهذا أمر تقوم عليه الحياة، وفلسفة العيش فيها، وحسابات الماضي والحاضر والمستقبل التي تشكل عمر الإنسان، غير أن السفر الأول، يبقى في الذاكرة محفوراً، لا تنسيك إياه كثرة الأسفار والتنقل الدائم، فذاك السفر كان مصحوباً بأشياء كثيرة، أولها الخوف الذي سيظل يتناقص ثقله مع الأيام، وتجارب السفر، ولكنه باقٍ بقدر، لأن الخوف من المجهول طبيعة من طبائع الإنسان، ثمة أمور متعلقة بالسفر وطقوسه، ستتخلص منها، وعادات مصاحبة للسفر قد تنبذها، وأشياء ثابتة، وبسيطة قد تظل معك، ولا يمكنك الفكاك منها، وأشياء مكتسبة، وتتراكم منذ الرحلة الأولى.
لو أن كل إنسان دوّن قصة السفر الأول، وما سبقه، وما لحقه من أشياء، وكيف شعوره وهو على متن طائرة محلقة أو على ظهر سفينة مبحرة، كيف هو شعور الإنسان أن يكتشف أن هناك أماكن في هذا العالم غير قريته ومدينته وبلده، وأن هناك أشياء مشتركة بينهما، ولو فصلت بينهما محيطات وصحارى أبعد من مد البصر.
مشكلة السفر الأول إن كان في مرحلة الطفولة، والذاكرة خضراء، ولا وعي أو معرفة تسندك، سيبقى شيء من الغبش والظلال، وأشياء حلوة تتمنى لو قادر أن تفهمها أو تستطعمها، أشياء جميلة، ومفرحة وبس.
رحلتي الأولى في الصغر كانت للبحرين، والبحرين يومها تعد بعيدة، والمسافات وآلات النقل حساباتها غير حسابات الوقت الحاضر، وهي متطورة عنا كثيراً، وفيها أشياء كأنها الحلم والدهشة، يكفي أني رأيت أول تلفزيون ملون عندهم، ورأيت طبقات عديدة من البناء المتراكم فوق بعضه بعضاً، يفوق طول النخيل العواوين، وأكبر أشجار العين، لم أكن أعرفه، رأيت أشياء كانت غريبة، لكنها اليوم مألوفة، لو ذكرتها لما عرفتم دهشتها، لكن عدّوها كأول مرة تشاهدها العين، كأن ترى مكيف هواء لأول مرة يبرد وهو ساكن في الجدار كالروزنه أو سيارات كالدواب تمشي على الطرقات، أشكال وأرناق، تختلف عن سيارة «حياة غريب ويحيى وعبدالله كشيمات».
في ذلك السفر الأول، كنت كل يوم أرى جديداً وغريباً، وكنت أحاول أن أجد له مسميات أو مشبهات، فلا أجد له إلا الأسئلة التي ألقيها على والدي أو على ممرضات مستشفى «نعيم»، يومها كنت صديقاً للكبار، ولا أحد معي من أترابي، كانت أشبه برحلة لفضاء خارجي أو الدخول في أسرار غابة الحكايات، لذا ستكبر الأسئلة مع العمر، ويكبر الفضول، وسيكبر حب السفر، لأنني سأظل دوماً باحثاً عن شيء مدهش، وعن شيء جديد وغريب، وبلا مسمى...
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد