بقلم - ناصر الظاهري
المطر في المدن، سفر آخر لعشاق الماء، وعشاق المدن، لذا لا نتقي من مطر المدن، وليباغتنا كيفما جاء، المهم إن حضر فسيحرك كل الأشياء الساكنة، بما فيها تلك التي تتهادى في النفس، مطر المدن وجع آخر، فرح آخر، وسفر مبتل بأوراق الحب والحنين، آه.. لو يتذكر الإنسان متى عرف أول مرة قطرات المطر، وما كان شعور جس النّفاف الأول.
ستنبرئ ذاكرة الطفولة، وأول الوعي، وكيف تعرف الواحد منّا على هذا الحب، وهذا التطهر، وتلك الرائحة التي تسكن الأنف إلى الأبد، أول المطر.. أول الطفولة، لذا حينما ينهمر مطر بزخّات متتابعة أو ترسل السحب المثقلة رذاذها المتقطع تظهر الطفولة ببراءتها، وتظهر ذاكرتها الطريّة، ويتجلى مشهد المنزل الأول، حيث كان البصر والبصيرة شاهدين وحيدين على سمو المشهد، وفرح هدايا السماء، وتلك الطمأنينة والسكون اللذان يلفان النفس والأشياء.
يشهد الإنسان المطر في أماكن كثيرة، لكنه لا يحب أن يتذكر إلا ما يسم ذاكرته بطيف عاشق، وضحكة تخبئ العافية، ومسرّة القلب، أو ما خالج النفس من دمعة كانت تترقرق باردة في أطراف العين، يشهد الإنسان المطر في ليل، وفجر، ونهار، لكن بعض الأوقات فقط تعطره.
اليوم أشياء كثيرة تذكرنا بمطر المدن.. وأشياء كثيرة يجلبها معه المطر، وأشياء إن حضرت كان المطر يسبقها، منذ توحل القدمين في طفولة حافية، الركض خلف خيوط الماء والسيل وهو يجري، وما يجرّه معه من أوراق شجر ساقطة، اللعب على كثبان الرمل المرتوية، البيوت التي نشيدها بالأحلام الصغيرة، التقاذف بكور الرمل، والحفر تتبعاً لسَرَب «الفقيشي»، أشياء من طفولة حينما كان المطر يبات يصبّ صبيباً، كيف كانت بيوت الطين لا تقاوم أو تلك العرشان من سعف النخل وجذوعه، لكنها تبقى بسواعد الناس، وتعاونهم، وذلك النداء الذي لا يتخلف عنه أحد، وحينما كانت الوديان تُطّبِل، وتجري كان الناس يتقونها بمعاريض وحفر، وما يمكن أن يساعد، سالكين بتلك المياه المنحدرة من «الداودي» طريقاً بعيداً عن بيوت تجاور النخل.. تلك العين هي المدينة الأولى، حيث بدأت قصة المطر.
بعدها مدن وحينما يأتي المطر، تحضر الأغنيات، وتحضر قصص دافئة بين الضلوع، تحضر أماسي في زوايا مطاعم كان زجاجها يشع بالرذاذ، وقطرات البلور، يمكن أن تحضر فيروز وخوفها على «العلّية والقرميد الأحمر»، يمكن أن تحضر رحلات جميلة كانت للبر، حيث أنس الأهل، وقهوة المزيون، وما ركّب على الأثافي، وما أوقد تحتها من مرخ سمر يابس، حيث للطعام أنفاس البرّية الأولى، وترنيمات الرعي، وتعب المسير خلف أنعام، وخلف خطوات بنت العم والخال، قد تحضر وجوه بعينها تدق بابك، والمطر يطرق نافذتك، قد تغتسل ذلك اليوم، وتحل سكينة من نوع آخر في قفص الصدر، مطر.. لا نعرف سره، وسر ما يفعله بنا؟ ولما حينما يأتي، لا يأتي وحيداً؟ ونكمل..