بقلم - ناصر الظاهري
ربما لأنني شبعت من المؤتمرات والملتقيات والندوات، رغم أنها كانت من المؤسسات للمعرفة الأولى، والمحفزات على العمل الإبداعي، وأطربتني وقتاً حين كان الصدر متسعاً، ولا يأسَى على شيء، لكنني أجدني اليوم ملولاً ضجراً، وعافّا، خاصة أن البعض يصر على أن يجلدك بخطبة غير رنّانة، وآخر يكاد يلتهم «الميكروفون»، وكأنه صيد سهل، والبعض الآخر يقول أي شيء، ليثبت الحضور، ويقول لامرأته حين عودته منهكاً من الكذب والتجمل: اليوم تفوهت وأفحمت وحذقت في مداخلتي، لذا غالباً ما كنت تنصرف تركض خلف ذاك الصبي المشاغب في داخلك الذي يترصد الحركات، ويقرأ الوجوه وما بين السطور، وما في الصدور، والذي يفرحك بتعليقاته البريئة، ونشدان البسمة، يطوف على الحضور يستشف من نظراتهم، ويتساءل: لماذا هذا القاعد على كرسي من فراغ، بالغ اليوم في حلاقة ذقنه حتى احمرّ صدغه ولمع؟ ولِمَ تلك المرأة المتصابية تشبه كاهنات المعبد في كحلها الثقيل، وصيغتها الفضية الكبيرة، وعطرها الأنثوي الذي يبدو في غير وقته، وكأنه ودّع رجالاً فروا باكراً من الحياة، باتجاه مقابر بعيدة، وغير واضحة المعالم؟ أو ذلك الشاعر بنشيده المدرسي، وكأنه لم يكبر أبداً، ولم تعلّمه سيرة الشعراء العظماء معنى الشعر، وكيف يمكن للدهر أن يكون منشداً؟
يبقى ذلك الصبي المشاغب يتلاعب بعقلك، ويدهيك نحو أمور كثيرة، غايتها سرقة ضحكة تزاغيه أو خطف ابتسامة تبرّد قلبه، ولا يجعلك كما أراد داعوك الرسميون مشاركاً فاعلاً على طريقتهم بتدبيج عبارات الثناء على العلاقات الثنائية التي هي دائماً مشتركة، وعلى تمتين روابط الأخوة التي هي دائماً صادقة، كان غالباً ما يحرّك فيك حس المصور الذي يتخلى عن لبس بدلة رسمية عتيقة ظلت حبيسة خزانة خشبية احترقت من لونها البني، ونَسيتْ تاريخها الهارب بالوقت، حين كان للبدلة ذات الصوف الإنجليزي الأصيل حضورها، ومصدر فخر لذلك الخيّاط الذي بقي يهرم في دكانه ومهنته، وفضّلتَ عليها الملابس الهفهافة الكتانية التي تغني للحر ولفرح الألوان الخارجة من زرقة البحر، والتي يمكن أن تستدعي بحّاراً إيطالياً مغامراً من أماكن بعيدة محاطة بسماء من اللازورد، فقط ليقول لمن يهوى: «بومبينو.. آموري ميو».
قد تدهشهم بفكرة صغيرة ومغايرة بعبارات قليلة، لكنهم ككتل رسمية إسمنتية يريدون طبقات من الكلمات المكررة والدسمة التي تراها ثقيلة على الكبد خاصة في الصبح، تريد أن تكون خفيفاً وصادقاً، وتريد الدخول للموضوع مباشرة، بعيداً عن الخطابات الترحيبية البلاستيكية، وحنحنات ما قبل قبض الميكروفون، والمزاحمات على التقاط الصور التذكارية، والتي تظهر في المزاحمين بأكواعهم الحادة، وضربات أكتافهم غير القانونية، حتى تجد نفسك على طرف الصورة كخنصر صغير، وغالباً لا يبين منك إلا عقالك الذي لا يشبه عقال أهل البصرة، فتعرف، ولا عقال الشطفة، فتميز، وحدهما عيناك تلمعان من بعيد مثل عيون «تايواني» فرح جداً.. سعد صباحكم، وغداً نكمل..