بقلم : ناصر الظاهري
ذلك العازف أصر أن يستقدمني إلى بيته في إجازته، ليفرح بتقديم وجبة عشاء صنعتها زوجته بطريقة استثنائية، كشأن أولئك الحبشيات الراقصات المزهرات في مسائنا، خادمات المعابد، المندفعات كعربات النار المقدسة، لهن لون قريب من اشتهاء القهوة.
كانت تنزانيا بضجيج المدن بعد ذلك الهدوء وسكينة الشجر الأخضر وغابات الصمت، في مدن البداءة والتاريخ، لقد كانت تحفل بمكنونات المدن، وتلاقي الغرباء من كل مكان، كنت تسمع ترديدات السفن الخشبية، وما كانت تحمله وهي عائدة صوب بحر الخليج من خيرات واختلاط الدموع بالضحكات، كان يومها الإنسان إما فاجراً وإما ضعيفاً، يتراءى لك ذاك الشقاء المرّ لبحارتها على سطوح مراكبهم، وما تخبئه الأقبية الرطبة من نشيج وآهات إنسانية لأسود إنسانية محبوسة، وكانت قبل ذلك تركض في البراري، وترقص حول النار في الغابات، وتغني مع هبوب الريح، وتمايل غصون الشجر، كان يفرحها نزول المطر، وفجأة قيدت بالحديد لتباع في أسواق النخاسة الإنسانية.
كانت زنجبار، وكانت بداية البحث عن صيتها العالي، لقد شعرت أن أحداً نزع عنها عباءتها، وهي اليوم جرداء، تبحث عمن يدثرها أو يعيد لها شيئاً من زهو الماضي، لقد خبأت دهشتها عني أو كنت أنا من رآها في المنام بغمامة السرد وحكايات المساء، لقد وعدتها بزيارة، لكنه طال الزمن، وطال السفر، وكان عهدي بها منذ ثلاثة عقود ويزيد.
ما كان يفزعني في تلك الرحلة قرص الناموس، وضجيج بعوض الليل، وتلك السمعة السمّية لتلك الأشياء الطائرة، خاصة تجاه اللحم الغريب والغزير، لذا كنت أسمع تصفيره حول أذني، وذلك الطنين، فأشعر بالجلد وقد وقف شعره، وصار يستجدي الحك، لذا كنت لا أنام من فرط الحساسية، وما أحمله من أفكار جاهزة عنه، وعما قد يسببه لي من ألم وأذى، والتي عادة ما يأتي بها الليل، ويزيد عليها، فكنت أضرب حول سريري ناموسية مضاعفة الشبكات حملتها معي من أبوظبي، وتكاد تزاحم ملابسي في تلك الحقيبة الجلدية، واشعل مصابيح قاتلة الناموس عند الرأس وعند القدمين، بعدها أدخل في سريري كطفل ما زال خائفاً مما قد يحدثه الليل وأصوات الظلمة، وناموسة غافلتني وتريد أن تنام على جلدي.
ما عدا ذلك.. كانت من الرحلات الفردية الممتعة والتي لا تتكرر اليوم، إلا إن كنت محاطاً بأصدقاء سفر، وبترتيبات معدة مسبقاً، لأن القلب لم يعد بعافية الشباب جرأة، فقد أثقلته الأيام ومتطلبات الحياة، وسكنته مسؤولياتها التي لا تنتهي، كما أن العالم تبدل كثيراً نحو الأسوأ، والإنسان غدا مستوحشاً بعض الشيء، ولا تسيّره الطيبة والفطرة القديمة، لقد كانت رحلة جميلة.. لو قلتم لي اليوم، هل تكررها؟ سأقول لا.. رغم أنها غاية في المتعة والفرجة والمعرفة، لكنني تغيرت حتى أنا، كما تغيرت روائح قرنفل زنجبار!
المصدر : الاتحاد