بقلم : ناصر الظاهري
العاصمة الثانية التي كنت أهاب زيارتها هي واشنطن، ولو لم أزرها فلن تشكل لي أي شيء أأسف عليه، زرتها للمرة الأولى قبل أحداث سبتمبر بعام، وهي مثل المدن الأميركية الأخرى التي لا ترى أثراً للسياسة على وجهها، ولا أحداث العالم يمكن أن تغير وتيرة يومها، وتفاصيل إيقاعها، فالسياسة الأميركية مكانها الأقبية الباردة، والمكاتب الزجاجية السميكة، وتلك الأبنية الخرسانية المضلعة، والأميركي كإنسان، بسيط وأقرب للصديق، نتيجة طبيعة المجتمع الأميركي المتعدد الأجناس والأعراق، والذي يعيش في مدن «كوزموبوليتانية» كونية، الكل فيها غريب لحين، حتى تتمكن منه المواطنة، ويرتبط بها كعادة يومية، وألفة للمكان، قد تغيرها الظروف، والمكاسب المادية، حيث السؤال السائد بين الأميركيين، ليس هل أنت أميركي، بل أنت من أي ولاية أو في أي مدينة ولدت؟ ولا يعنيه معرفة ما يدور في العالم، ولا في أميركا، بل المهم مدينته، ولو زار ساحر الكرة الأرجنتيني «ميسي» أميركا، فلن يتعرف عليه أحد، ليس كرهاً في كرة القدم «سَكَر»، وتفضيلهم عليها كرة القدم الأميركية «فوت بول»، بل هي طبيعة الأميركي لا يهتم إلا فيما يعنيه، وأتذكر أن شرطياً كان مسؤولاً عن الملعب الذي تخوض فيه الأرجنتين مباريات كأس العالم في أميركا، وكان يومها الساحر الأرجنتيني الآخر «مارادونا»، فسئل عنه، وحاولوا أن يقربوا له المسألة ويبسطوها، فقال الشرطي: قد يكون أفضل لاعب في العالم، لكني لا أعرفه، وأفضّل أن أعرف كل تحركات الجمهور في ملعبي المسؤول عنه.
ثمة فروق كبيرة بين العاصمتين: موسكو العظيمة، وواشنطن المتواضعة على كافة الأصعدة، بدءا من المعالم التاريخية والسياحية والمتاحف والشوارع الزاخرة بالثقافة والمظاهر الاجتماعية، وانتهاءً بجبروت العواصم التي تراكمت هيبتها على مر العصور، فموسكو على الدوام كانت مدينة مستقطبة كمركز لكل المبدعين في الفنون والآداب والسياسة والاقتصاد، في حين واشنطن واحدة من مدن المركز، وهي مدينة طاردة إلا للمتميزين في السياسة والإعلام، أما بقية المعارف والعلوم فتتوزعها مدن المركز الكثيرة في أميركا، وهي حديثة العهد تأسست عام 1790 على أرض فيدرالية لا تتبع أياً من الولايات، تبرعت بها ولايتا «فرجينيا» و«ميرلاند» على نهر «بوتماك»، واندمجت مع العاصمة جورج واشنطن عام 1871 ليصبح اسمها «واشنطن دي. سي»، اسمها جاء من الرئيس الأميركي جورج واشنطن، و«دي.سي» تميزاً لها عن ولاية واشنطن في الساحل الشمالي الغربي، وأكبر مدنها «سياتل»، ويعني «District of Columbia»، محلة أو ناحية كولومبيا، من مكتشف أميركا «كولومبس»، أما اسم أميركا فمرده للمكتشف الإيطالي «أمريكو فوسوبوتشي»، واتخذت أميركا بعد حربها الأهلية العديد من العواصم في مدنها المختلفة، نتيجة تنازع الشمال والجنوب حتى استقروا على بناء عاصمة جديدة محايدة على يد المهندس الفرنسي «بيير شارل لانفان».. واشنطن مدينة بلا رائحة.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد