بقلم : ناصر الظاهري
والله.. إني لحزين مثقل القلب حد الوجع، وإن مسائي مدلهم مثل سواد غيمة لن تغيب، وإن ليلي موجع مثل مخرز في الكف، غاية من كان هو ذاك الفلا والعراء، حيث لا صلاة غير الصمت، والدمع هو الدعاء، قد لا يدرك ثقل ذاك الرحى على الصدر مثل أولئك الذين كان بيتهم حد البيت، وكانت لرائحة طعامهم طعم في الفم، وكانوا أقرب للجار مثل حرّاس لا ينامون، لم كلما ودّعت دنيانا قامة عالية نتذكر أناس الزمن الجميل؟ وكأنها وصايا ممهورة على الرقيم، نتذكرهم ونتذكر من يرحلون تاركين في النفس ندامة، أولئك الذين كانوا يتنادون، وكانوا كلهم وأولهم عند مصرع باب البيت، أبا هزّاع.. حزين مسائي، مثقل وقتي، وليت النبأ غير صدق النبأ، وليت كل ما قيل كان غبش مدى، وكان سراباً، فأهلك الصادقون كما عهدتهم إذا ما نزل الغيث، كانوا لصَاقاً قراباً، وإذا ما دُقّ هاون القهوة، ونداء الفزعة، كانوا كراماً، وكانوا صدراً، وكانوا لزاماً، وحدهم من يبكون اليوم رائحة ذاك الأب، ذاك الذي أشعل فتيل الوقت، وقال: شعبي ومالي وحالي، ودون الشعب مال وحال، لهم مسخر كل الحال والمال، هكذا كان، وهكذا ربى أولاده، الذين نفتقد اليوم واحداً منهم، كان عزيزاً على الجميع، خدم الوطن والجميع، سلطان الخير والمحبة والألفة.
الشيخ سلطان عرفه أبي صغيراً في قصر العين، كان عين والده، وفي عيون رجاله، كانوا يودونه، ويرعونه ويراعونه، ويجنبونه أحياناً غضبة الشيخ زايد، ويدارون عنه، هكذا كان أبي يفعل، ولو لامه الشيخ زايد، وعرفته أنا طالباً متقدماً علينا في الصفوف، وقائداً في فريق الكشافة، ونحن الأشبال، وحين أصبح قائد المنطقة العسكرية الغربية حضر بمعية الشيخ زايد والشيخ محمد حفل المدارس العسكرية السنوي، يومها قدمنا مسرحية «وا.. إسلاماه»، وكنت أقوم بدور «سيف الدين قطز»، ورغم الإعجاب وكلمات التشجيع التي صدرت من كبار الحضور، لكن وحده أبي لم يكن راضياً كل الرضا عما يقوم به بكره، وقبلها زارنا الشيخ سلطان وكان يومها نائب قائد قوة دفاع أبوظبي في زيارة تفقدية للمدرسة العسكرية، فأخذني والدي بيدي يشكوني إليه، قائلاً: «طال عمرك هذا ناصر كل ربعه سجلوا في الكلية العسكرية إلا هو، ما ادري شو يبا يدرس من العلّة»، فضحك الشيخ سلطان، وقال الله يرحمه: «خلّه يكمل الجامعة، ناصر لو درس حتى مسرح بينفعنا»، يومها أيضاً لم يكن أبي مقتنعاً كثيراً بما أدرس، وهو العسكري الذي لا يعرف شيئاً مهماً مثل العسكرية.
وحين توفي أبي كان الشيخ سلطان بارّاً بِنَا، يوصلنا، ويكرمنا، وكان بين الحين والآخر يتصل معلقاً على عمود أو مناقشاً لموضوع أو منبهاً لموضوع من تراثنا ولهجتنا، فقد كان مطلعاً، عارفاً ومهتماً.
لتبك الباكيات على مثله، ولتنُح النائحات على مثله.. كان سحابة من خير وطيب، كريماً غاية ما يكون الكرم، للقاصي والداني، وكأن المسك الأبيض طينة وعطر يده، لروحه الطاهرة المغفرة والرحمة والطمأنينة، والعزاء للإمارات، لأن حالها كحال «أبو خالد» فقدت أخاً وسنداً وعضيداً.