بقلم - ناصر الظاهري
مما بقي من حديث ذلك القرين من الإنس الذي ألقيت عليه القبض ذات مرة، في ذات سفرة، وهو متلبس بالسعادة، يقول: بقيت أتوكأ على الأشياء التي تجلب الرضا، وتقودني للفرح، أشياء بسيطة في الخارج غير أنها كبيرة في الداخل، وتفعل فعلها بحيث لو ارتجّت الأرض تحت قدمي، لا أبالي، لأنها غدت من الثوابت الثقال التي ترزّني في الأرض، وتجعل كل الأمور تتساوى عندي وتتشابه، وهكذا بقيت منذ منتصف السبعينيات، وحتى اليوم أعيش سعادة متواصلة، وقناعة أبدية، وحين أجد صحناً واحداً لعائلتي، أتذكر بسعادة أنني بت جائعاً لأيام وليال، وحين يقرصني المال وقلته، أتذكر بسعادة أني ما زلت سليم البدن معافى، وحين يجحد امرؤ شيئاً مما عملت وقدمت له، أتذكر أنني فعلته بحب وصدق، ولا كنت أنتظر منه جزاءً أو شكوراً، وحين يتكالب الناس تكالب الأكلة على قصعتها، كنت أرضى من الغنيمة بالإياب، وحين يسوم الناس وجوههم لأشياء زائلة، أفرح أن ماء وجهي لم يهرق، وأن عزة نفسي لم تجرح، فتدخل السعادة عليّ، وكأنها ريح باردة مرسلة من بعيد.
وهكذا دائماً كنت أجد مفتاحاً صغيراً للسعادة في جيوبي، تعلمت الإنجليزية فأضفت سعادة أخرى على حياتي، وحضتني على لغات أخرى مثل؛ الفرنسية والإسبانية، يمكن أن تهديني لنوافذ مواربة على السعادة أجهلها، تزوجت ورزقت بطفل، وبنتين، ففرحت وسعدت بهم، وربيتهم فكانوا مصدر سعادتي، تعلموا ونجحوا، فكدت أطير من السعادة، أرسلت الولد للدراسة في الخارج ليتعلم، ويعلم نفسه، ويعتمد عليها، فكانت في داخلي سعادة لا يعادلها شيء، يتصل بي، ويخبرني عن تفوقه، وعن أشيائه الحميمية، فأقول لقد كبر الولد، وبدأ يفهم الحياة، وعليه أن يبحث عن معانيها، وسيرورة العمر هي الهادية والكفيلة بغربلة الأمور في رأسه، تخرج الولد واشتغل، فصارت أموره تسعد أمه وتسعدني، أقول بيني وبين نفسي أحمد الله أنه لم يقارب المخدرات، فأفرح وتكاد السعادة أن تدمع عيني، تزوج الولد فسعدت به وباختياره، سكن معنا في البيت فأضفى عليه لمسة من السعادة جديدة، رزق ببنت صغيرة، هي اليوم سعادتي الكبرى، والبنتان شقتا طريقهما في الحياة متفوقتين على نفسيهما، هما السعادة المختبئة في الصدر، وهما مصدر هطول الدمعة من العين، وهما نقطتا الضعف، استقرتا في بيتين مختلفين مع رجلين أحدهما لم أكن أحبه كثيراً، لكنه اختيار البنت الصغرى، وعليها أن تدافع عن اختيارها، هكذا كانت وصيتي لها، هي الآن أفضل منه في العمل والحياة، وحمداً لله أنها لم ترزق منه، البنت الكبرى، هذه تشبه أمها، وتعرف كيف تأتي بحقها، ولا أخاف عليها، لكن حين تقول: تعبت! تبكي عيني، لقد شخت اليوم مع عجوزي، وأنا سعيد بقناعاتي وحبي للخير، ومعرفة الإيمان الصادق.. لقد لقيت السعادة منذ أن فتحت بابها الواسع، وانتشلتني من وحل الغابات وحربها، وقالت لي: دونك.. أقبلت الحياة!