بقلم : ناصر الظاهري
بعض المدن التي تزورها تصبح رؤيتها كمشاهدة أشباح ضبابية، تمر هي وصورها المهادنة الغائبة، وكأنها تداعيات مساءات مخمورة، ولا تعلق بذاكرتك منها أي رائحة للناس أو ضجيج للمكان، ولا يلح شيء منها على رأسك، مشاغباً أو داعياً لغواية مشتهاة، مثل صباح مختلف أو مقهى يقبض على زوّاره العجلين عند ناصية الشارع، أو حديقة خضراء بالناس والذكريات، أو فلاح يحرث المدينة بطريقة القروية، أقلها مطعم عتيق يؤرخ لسيرة المكان، وأغاني العشاق، لحظات دموعهم، أين سكير الحي، يتبعه كلبه الوفي أكثر من زوجة؟ لا مشاغبات لأطفال واعدين بالسفر البعيد، لا امرأة مختلفة تمر من هنا، لا جدران لها رائحة التاريخ.
في مثل تلك المدن ترى أشياء العالم، لا أشياءها هي، فتغيب عن الرأس، وتغيب الدهشة، فلا تتوقع أن تتوقف عند شيء معجباً أو غاضباً، تسير في الطرقات فلا تتوقع إلا باصاً قادماً، أو سيارات مسرعة أو محلاً تجارياً من عدة طوابق يقبض خاصرة الشارع، أو مصرفاً صارماً، وفوقه شركة تأمين لا ترحم، لا يمكن أن يفاجئك تمثال لبحار غامر باتجاه البحر والرزق والزرقة أو شاعر كان صديقاً للشجر، ومنشداً للوهاد والهضاب، وما يمكن أن يمزق القلوب ساعة التخلي، تتجول ولا يمكن أن تتعثر فيها بأي حجر على الطريق، تاريخها متماهٍ مع دول الجوار أو منهوب الروح، فكل شعب احتلها ثم ذهب منها بعد ذلك حاملاً تاريخه الذي كان هناك معه، لا جغرافية غير شتاء غاضب ملتح بالبياض، ويمكث طويلاً كدهر على الصدر، لا ثمة بطولات يمكن أن تفرح المدينة طويلاً، وتطرّز مساءات الأطفال، وتجعل أحدهم فارساً لصبية تتعاطى مع الحلم بأول التماسات الأنثى التي تكبر، وحكايات منسية تلوكها العجائز مثل «لبان الملائكة» لأحفادهن قبل النوم، في مثل تلك المدن لا راسيات لحجر يعاند الدهر، ويظل شاهداً حين يتلاطم الموج فوق الموج، كفزّاعة موت للغادرين المتسللين تحت جنح الليل، لا كنائس لها عطر الغيب، وكلمات السماوات، وبرودة الحجر والخشب والسكينة المخبأة، لا شيء فيها يهمس في أذن المارين أن له صفة التمايز والمغايرة، لا شيء فيها يقول لك: «قف.. أنا مختلف»!
كثيرة تلك المدن التي تشعرك أن أشياءها لها صلابة البلاستيك التي بلا معنى، أو تلك الرخاوة المملة حد الضجر، ليس هناك تكوّن أو صلصال معالج وطين، أغلب الأشياء هلامية بحيث يمكن للمدينة أن تفلت من يديك، ولا تتأسف على شيء.
تجوب تلك المدن التي تشبه الـ«سوبر ماركت»، وتتمنى لو أن لها علامة فارقة، فقط حين تعطب الذاكرة، وتحتاج لشيء له شذا وريق امرأة من هناك، مساء معتق بالعنب والمطر والحكايا، أي شيء يحتفظ به الشيخ الفاني المتفاني، وهو يعد خطواته الصوفية نحو المدن والناس والحياة والوجد!.. وغداً نكمل