بقلم : ناصر الظاهري
كنت أظهر في تلك الصورة الأولى بعض الجدية غير المطلوبة، مع ضحكة تروح وتجيء، كانت أشعة الشمس تعشيني، ولا أستطيع أن أبرّق بعيوني، كانت الدمعة في المحاجر وقتها حاضرة، وحين «هزبني أبي»، تدلى البرطم قليلاً، وكدت أبكي مضيعاً الفرح بالصورة، حاولت أن افتح عيني معانداً أشعة الشمس، فظهرت عين واحدة «شوصاء»، وأصغر من أختها، تدخل العكّاس لحظتها لكي ينجز عمله دون بكاء الصبي، ولكي تظهر الصورة أحلى، ولكي لا يعيدها مرة أخرى، وهي لحظات ربما تدرب عليها كثيراً، فطلب مني مراراً أن أرفع رأسي قليلاً، وأفتح عيني، وأبرز صدري دافعاً به للأمام، وأنظر إلى يده بجانب العكّاسة، وابتسم قليلاً، غير أن الصغير ما يلبث أن يتحرك بإرادته، ويزرّ نفسه، ويريد أن ينفجر من الضحك، بلا سبب، فقط لأنهم أجبروه على التمثيل.
هذه الصورة بالأبيض والأسود والتي عمرها اليوم أكثر من 35 عاماً، ويمكن أن تضيفوا عليها سنوات أخرى دون لوم أو عتب، والتي تعب العكّاس فيها كثيراً، وهو يحاول أن يميل رأسي، ويرفعه عالياً بعض الشيء، وظهرت فيها كمواطن دمية يبدو أنه جاء للمدينة للتو، وسيضيع فيها، إذا ما غيّب ظله الذي يتبعه، تلك الصورة غابت بعد أنْ امتحت معالمها، وفقدتها مع ركض السنين، وتبدل المنازل، وجهل بالأشياء، تماماً مثلما غابت صور الآخرين منهم في زحمة أشيائهم الجديدة، لكني ما زلت أتذكرها في البيت الطيني القديم، كانت موضوعة في طرف
المرآة الوحيدة في الغرفة بجانب «الروزنه»، والتي كانت تزينها رسمة طاووس، وحين ابتكر العكاسون تلوين الصورة يدوياً، ضيّع الكثيرون صورهم بالأبيض والأسود بتلك الألوان البائسة. العكّاسون في الماضي كان يرحب بهم، ولهم منزلة، والناس تكن لهم احتراماً واضحاً، ومحبة غير عادية من كبار وصغار، حتى المرحوم الشيخ زايد كان يداعبهم ويمازحهم ويكرمهم، فقد سجلوا مشاهد أيامه، ورحلاته، وجولاته، وتفاصيل صغيرة أحبها، وأحبها الناس، واليوم هي من أغلى أشياء الناس التي تحرك الدمعة والفرحة في عيونهم.
لكن تعقد الحياة، وضريبتها، وما جرت من أحداث، جعلت الناس يدفعون بالمصورين إلى آخر الصفوف، رغم أن مهنتهم تتطلب منهم الوجود قبل الصف الأول، وتحملوا «الهزاب والنطرة، والفتنة، والتدفير، ولا أحد يقول لهم اقلطوا»، من أجل أن يحظوا بصورة مختلفة، ولها قيمتها، سواء كانت اليوم أو في الغد البعيد، والتي أتمنى أن لا تضيع مثلما ضيّعنا صور الطفولة البريئة، تلك التي أخذها يوماً ما عكّاس في سوق أبوظبي القديم، القديم!
المصدر : الاتحاد