بقلم : ناصر الظاهري
هم أصدقاء يختلفون عن أصدقاء الطفولة الغُبر المِلح، أيام ملعب البلدية القديم في العين، وغير عن أصدقاء المدرسة في الصفوف المختلفة، وغير عن أصدقاء الدراسة الجامعية والسفر، هم أصدقاء تفرضهم عليك الحياة ومتطلبات العمل المهني، هم بعيدون في الغالب، ومن ثقافات مختلفة، ولكنهم قد يصبحون قريبين منك بأفعالهم وأخلاقهم وحسن معشرهم، لذا كثيراً ما أقول إن لكل مرحلة من مراحل العمر أصدقاء مختلفين، وقد لا يتكررون، لكن يبقى أصدقاء الطفولة أجمل الأصدقاء وأخلصهم، وهم وحدهم من تصحبهم لنهاية العمر، هم وحدهم الذين لا يتأخرون إن بدت لك معضلة أو أصابك كرب، غير أن أصدقاء مرحلة العمل، ومنعطفات الحياة، فيهم أشياء مختلفة ومميزة، ولا يدري عنها الأصدقاء القدامى، وإن دروا فربما لا تعجبهم، مثلما تعجبك أنت اليوم، وتستغرب منها، من بين هؤلاء صديق هولندي، مرح، ويتصرف بعفوية، وأحياناً تعدها سذاجة لشخص أوروبي مثله، لكنه لا يكترث، مثلما كان يعد حياته الأولى حين كان مساعداً لخوري في الكنيسة، واليوم لا يعترف بأي شيء يخص المعتقدات، ويخطف عن الكنيسة بمقدار فراسخ مما يعد، هذا الصديق سبب معرفتي به، وصداقتي له، وسر تمسكي بمعرفته، أنني أول مرة عزمته على عشاء في مطعم راق في ضواحي أمستردام، وجلسنا، فإذا بالطاولة التي أمامنا تهتز وترتج، فكان تعليقي على ارتجاجها: هذا ما أكرهه كثيراً في طاولات المطاعم، فلا تستطيع أن تتقبل رقصها الدائم، ولا تقدر في كل مرة تشرح للنادل مدى مقتك للطاولة التي تضلع، فسكت الصديق قليلاً، فقال: لا داع، ثم أظهر من جيب بنطاله قطعة خشب صغيرة، ووضعها تحت رجل الطاولة فاعتدلت واستقامت، فعجبت منه، فقلت له: لو طلبت مثل هذا الشيء من المطعم، فلن أجد تلك القطعة الخشبية، وعادة ما يعتذرون عن ذلك، ويضعون تحتها قطعة منديل ورقي، فلا تكون مسطلبة كما ينبغي، مثل القطعة الخشبية لصديقي، فسألته عن السبب في حمله مثل تلك القطعة، فقال هي عادة، وأنا أبحث دائماً عنها في المحلات المتخصصة، فقلت له: لو أنني لا أحتاج لنقود وبطاقات اعتماد للضرورة ما حملت شيئاً في جيبي، وأنت تحمل قطعة خشبية! فقال: لا تستغرب أحياناً أحمل أكثر من قطعة، فربما احتاج جيران الطاولة المقابلة مثل تلك القطعة الخشبية فأبذلها لهم بسخاء!
فقررت منذ تلك اللحظة أن يكون صديقاً جميلاً ومختلفاً في الحياة، هذا الصديق يصدمني أحياناً حينما يقول إنه منذ أكثر من عشرين سنة لم يحلم بشيء، ونحن نتقافز كل ليلة، ونتضارب مع أناس لا نعرفهم، ونحلم نطير، ما نخلي بحراً ما نقطعه، الغريب أن هذا الصديق الهولندي سكن معي قرابة الشهر في منزلي في الطابق الأرضي، تقول سأل عن ما يوجد في الطابق الثاني الذي أسكن فيه، نحن الفضول بيقطعنا إن لم نسأل عن «الحوّة وعروقها»، نفس هذا الصديق تقول تحكك مرة قدامك، ونحن كل حين وكل ساعة تقول صائبنا الشرى، نتم نتحكك تقول بلاء حلّ بنا.. نعم الصديق ذلك الهولندي الذي لا يهرش.