بقلم : ناصر الظاهري
الإنسان يظل يحن للماضي أكثر من غزل المستقبل، لأن المستقبل يتحول بعد مغيب شمس يومه إلى حركة في الزمن، تسمى ماضياً، ماضياً مضارعاً، ماضياً قريباً، بعيداً، حنيني اليوم للفرنك الفرنسي ليس أكثر من حنين الفرنسيين، ولا أزايد عليه، لكنني ارتبطت بعملتهم كمفردة يومية للتعامل لمدة ثلاث سنوات متتالية، وكتعامل منقطع لمدة تزيد على عشرين عاماً، واليوم حين أزور مدنهم أتذكر الفرنك وأتذكر أيامه، ولا أقدر أن استسيغ اليورو وتكبره، وسحقه للبسطاء من الناس، ولأن الفرنك ارتبط مع رخائي أو شظف عيشي، وبتفاصيل صغيرة في الحياة، اشتريت به ورداً بألوانه، وأزهار التيوليب التي أعشقها مرات كثيرة، كان يتقدمني في مطاعم باريس الراقية، غير وجل، ولا هيّاب، وإلى مطاعمها الشعبية، بكل عنفوان، وخيلاء، تزينت بثمنه بملابس أنيقة ورسمية، وأخرى «هتلية» كان يدفع ثمن بيت أعشقه على السين، وبطاقات معايدة للمناسبات الكثيرة، فواتير هواتف تصلني بالذي أحب في جهات العالم الأربع، كان يقلني في سفر دائم، وينزلني في فنادق العالم، كان سخياً على بعض أشيائي العزيزة من ساعات وربطات عنق، ومن لوحات وتماثيل اقتنيتها، أحسست حين انقطع من السوق، أنني ودعت صديقاً كان قد شاركني حلو المناسبات ومرّها.
اختفى الفرنك الفرنسي بعد 641 سنة، من التعامل اليومي به ومعه، وهو أمر جد عسير على الفرنسيين الذين يعشقون التمايز والخصوصية، ويعتزون بما هو وطني وتاريخي، ويفتخرون بـ «سفرائهم» في كل شيء، فكيف بالفرنك صنو العلم، ونشيد المارسيلليز الوطني.
الفرنك أو الحر أو الصريح، ظهر باسمه هذا عام 1360م وكان قبل ذلك يطلق عليه «لويس دور أو لوي الذهبي» وسمي «الأيكو» الذي صك عام 1236م في عهد الملك سان لوي، وفي عام 1436م في عهد الملك شارل السابع، أعاد صك ما سمي «الايكو الذهبي» وسمي «تستون» الذي أمر الملك لويس الثاني عشر بصكها بعد إعجابه بالعملة الإيطالية الفضية، والتي تحمل رأس الملوك، و«تستا» تعني الرأس بالإيطالية، وأطلق عليه «اسينيا» أو الحوالة، وهي عملة ورقية ومعدنية، طرحت للتداول إبان الثورة الفرنسية، واختفت بعدها في عام 1797م.
أثناء حرب المائة عام بين الإنجليز والفرنسيين 1356م تم أسر ملك فرنسا جان الثاني الطيب في بواتييه، واستمر في الأسر مدة أربع سنوات، إلا أن تمت فديته، بثلاثة ملايين إيكو، وعاد إلى فرنسا حراً، وتخليداً لهذه الذكرى، أمر الملك في الخامس من ديسمبر عام 1360م بصك أول فرنك، في مدينة «تور» الفرنسية، وسمي «قرنك» ويعني الحر، تيمناً بعودة الملك إلى بلاده، حراً، طليقاً.
كلما زرت فرنسا وأغضبني اليورو، أتذكر صديقي البسيط «الفرنك»، وأترحم على أيامه الحلوة، التي قبرها الفرنسيون، حتى من دون أن يدفنوا صاحبها في مقبرة العظماء في باريس، كأحد الرموز الفرنسية العظيمة.