بقلم : ناصر الظاهري
طفولتنا تلك التي تظل تعيش معنا، وفينا، وحين نود أن نفرح النفس نذهب نحو حقول براءتها الأولى، متذكرين الشغب والعفرتة، وتلك العين الحمراء الزاجرة من الأب، والصريخ الخافت من الأم، ونتذكر الضرب حين يشتط الغضب بالأب، والمسكنة الطفولية باتجاه صدر الأم، وإبداء الضعف تجاهها، فتنسى كل شيء، ولا تتذكر إلا لجوئنا إليها، كما لا تتذكر وعوداً ووعيداً بإخبار الأب إن حضر، حينما تنظر إلى العين المنكسرة فينا، وتلك الشفة المتدلية قليلاً مستدعية دمعة مختبئة في العين، تنسى أو تتناسى ذاك الحضور، خالقة جواً دافئاً ومختلفاً، وطمأنينة في نفوس صغارها المتحفزين لعقاب آت، قد يفززهم في المنام التي تريده هانئاً ومبكراً.
من الطفولة وبالطفولة تتشكل السمات، وتبنى ركائز الشخصية، فهي في العموم باتجاه الخير، ونحو براءة الأشياء، وصافي أمورها، وحده العمر المتسارع، وما يكابد المرء في مجالدة الحياة، يجعل من تلك الطفولة المبكرة تغيب، لتحضر هيئة جديدة، بسمات جديدة، نحو أهداف مختلفة، وقد تكون ذات قبح وشرور.
ولقد تعلمنا من طفولة بعضنا، وسردنا قصص طفولتنا على بعض، ضحكنا مرة، دمعت عيوننا مرة، غير أنني لم أر مثل طفولة تلك الصبية المتسامحة مع نفسها، وكأن جناح ملك يرفعها، وظلال ملك تحاظيها وتقعدها، هي بالغيم ملتحفة، وبالبسملة تسير، قالت مرة، وهي لا تدري: سأحكي لكم قصة طفلة كانت تسرح بغنمها في البرّية، وكانت تعدّ الأشجار، وتتبع الظل، وتغني لغنمها السارح في مُلك الله، بعدت وتباعدت عن دارة الجد، معتقدة أن الخطوط المستقيمة موصلة دوماً لبيت الجد، وأن الصوت العالي يمكن أن يستدعي الجد، سارت سير البهم. طريق ملتو يقطع بها جدول ماء، وأرائك من شجر قد تحجب الأفق عن عين الصغيرة، لكن هناك غنائية في البرّية ما برحت تتردد في صدرها، وتقود خطو قدميها المتزربلتين بصوف عتيق، وبغتة صادفت ذئباً يتختل، ويريد أن يقتنص القاصية من غنمها، افتكرته في البداية كلباً عطشاً، وأرادت أن تشاركه قطرة الماء التي تحمل في سعنها، وتهدئ من رغاء وثغاء تلك البهم التي تعرف أن الذئب لا يهرول به الظمأ، وحدها كانت تراه مثل ذاك الذي يحرس باب حظيرة جدها، ظلت تهش عن غنمها بتلك العصا التي في يمينها، حتى رأت الاحمرار في عينيه، فخافت وجزعت والبهم تحوطها، سالكة بها طريقاً آمناً، هي حتى اليوم لا تدري كيف أن الغنم أخافت الذئب، وظل يراقبها وكأنه يحرسها من بعيد، ولا تدري كيف أن الغنم دلتها على طريق البيت الذي أضاعته.. تلك الفتاة ليتنا اليوم هي في طفولة كان يسكنها الرضا، وتبوح بالحمد دوماً وشكراً في تلك البراري التي كانت تريد وحدها أن تآخي بين الذئب وبين البهم!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد