بقلم : ناصر الظاهري
لماذا حين نقف أمام شباك زجاجي عاكس في منزل أسمنتي، لا نرى أنفسنا بقدر ما نرى صورتنا المنطبعة على اللوح الزجاجي اللامع؟ فليس ثمة اتصال روحي بيننا وبين هذه الموجودات الحديثة، وحده بيت الجص والطين القديم، بشباكه الخشبي، لا يدعنا نمر هكذا، له رائحة كالياسمين وأكثر، نتصلب قدامه ذارفين دمعة حنين، متذكرين طيبة الأهل الأولين، في المنزل الخرساني.
اليوم لا صدى للروح، في حين بيت المدر والطين والسقف الخشبي، فيه نشيج لأغاني ساعات عمل الناس، وآهات من تعب عرقهم اليومي، هكذا هي أحاسيسنا بالمنزل الأول، ذي «الدروازة» المشرعة للضيف والريح، في حين منازل اليوم لا تعرف أبوابها الحديدية المشغولة الشفقة!
لماذا زمان كنا نسمع آهة الجار، ونفرح لضحكته المدوية إن شقت غبشة الصبح، واليوم لا نحب أن نسمع إلا هدير الناس بالباطل عنه، وإن ضحك ملء قلبه، تحرك في داخلنا عِرق الحسد؟!
لماذا كانت العزيمة والوليمة زمان تشبع العين قبل البطن، وعزائم اليوم تربك وقت الأصدقاء، وتلبك بطون المعزومين؟!
لماذا زمان إن عاد الحاج رفعنا على سطح بيوتنا «البنديرة» فرحين بقدومه، منتظرين «شفايا» الحج، واليوم، وحين قصر الطريق إلى مكة، واعتاد الناس الحج كل عام، واستطاعوا له سبيلاً، لا ندري من ذهبوا، ولا متى عادوا؟!
لماذا ثوب زمان الجديد يرقصّ القلب، وأثواب اليوم الكثيرة والجديدة تشعرنا بذاك الملل السريع؟!
لماذا زمان كان الاتساع في كل شيء، واليوم نرى الدنيا تضيق، ونضيقها علينا؟!
لماذا كثير من أشجار اليوم نراها وكأنها في غير تربتها، ووحده النخيل ما زال يعطي أنسة وأنسنة للناس والمكان؟!
لماذا زمان كنا متقدمين ببساطتنا، وتلك الطيبة المفرطة التي لا تفارقنا، واليوم نرانا نعد خطواتنا للخلف، ونربي أنانية لم تكن منا، ولا فينا؟!
لماذا للأعياد زمان طعم في الفم كلبن الطفولة، بها تبرق أيامنا، وتغسل قلوبنا، ونصبح بخفة جناح الطائر، في حين اليوم يمر العيد تلو العيد، ولا فرحة تطرق قفص الصدر، ولا بشارة توضع عند عتبة الباب؟! لقد غادرنا العيد في الكبر، وغاب في تلك الطفولة الهاربة بسرعة إلى الأمام!
لماذا زمان كان الأولاد زينة شوارع الحارة، وضجيجها الجميل، واليوم نخاف على أولادنا من شوارعنا؟!
لماذا زمان كان صوت الجد يرّن في البيت الكبير، واليوم ضاق به البيت الجديد، وغاب صوته في المنزل الصغير؟!