بقلم : ناصر الظاهري
* هي أغانٍ جاءت هكذا، فارضة نفسها على النفس، خالقة جوها الذي لا يمكن للذاكرة أن تنساه وتنساها أو تغفل عن شهقة الحب حينها أو دمعة العين وقتها أو من كان معك ساعتها، تجرها السنون إلى الوراء سنوات وسنوات، لكنها إن حضرت، حضرت بجلال الوقت، وهيبة الزمن، وسماحة تلك الوجوه، وبياض القلوب التي لم تكن تعرف الأذى.
- أغنية «ييه.. دوستي» في فيلم «شعلة» حينما يغنيها الصديقان «دهرميندرا وأميتابتشان» على دراجة نارية تشبه دراجات الجيش النازي في عهد «هتلر»، هذه الأغنية حينما أسمعها الآن تنساب ذكريات جميلة في سينما «المارية» مفتوحة السقف، وتذكرة بربع دينار بحريني، وطلبة القسم الداخلي يهربون قاطعين شبك المدرسة العسكرية الداخلية في معسكر «آل نهيان»، قاطعين تلك المسافة بين كثبان رملية وطرقات غير معبدة، ولا واضحة المعالم، مخترقين «بارهوز» إلى شارع الجوازات إلى شارع المرور إلى شارع «إلكترا» حتى يستقر بهم المطاف بين سينما الخضراء المسقوفة، وسينما المارية المفتوحة، مقندين الرأس بـ«كوب شاي حليب، وخبزتين براتا وصحن بيض مع طماط»، ليعيشوا بعدها مع فيلم «شعلة» الذي شاهدوه عشرات المرات، ولا يملون منه، ويفرحون به مثل أي شيء جديد.
- أغنيات عبدالحليم حافظ «زي الهوى» و«موعود» كانتا تصدحان في «سيرك عاكف» المصري في النادي الأهلي الذي هو الآن نادي الوحدة، يومها كنّا طلبة أكثرنا من المتفوقين، لكن كان هناك نوع من فرح الدهشة والاكتشاف وسبر أي شيء جديد، كنّا نحمل الكتب وندفنها، ونعلمها بطابوقة أسمنتية أو بعود خشب لنرجع لها بعد العرض في ذلك السيرك المدهش، والذي يراه أكثرنا لأول مرة، اليوم لا أستطيع أن أسمع تلك الأغنيتين دون أن تسحباني إلى أجواء السبعينيات في ذلك المكان الجميل بوقته وزمنه وناسه، وتلك المدينة التي ما زالت في القلب صغيرة كابنة لا تحب أن تكبر أبداً.
- لا يمكن أن أدخل باريس، وتجرني خطاي إلى «سان ميشيل» أو «الحي اللاتيني» دون أن يطرق أذني ذلك الصوت المبحوح بالتبغ والتعب، صوت متشردة تتبع هواها وإبداعها وإشراقة فنها المختلف، هي أغنية «لا في إن روز» أو الحياة الوردية لـ«إيديث بياف»، وحدها يمكن أن تقودني بلا ضلالة نحو مساءات باريس العابقة بعطرها المخلص، وهمهمات مطرها الذي يأتي باستحياء، مغافلاً الجميع، وحدها نوافذ البيوت المواربة على الحب والدفء من تسمح له أن يطرقها كعزف «ساكسفون»، وكأنه صديق وحيد لليل، ولظله الذاهب في ذاك السواد البارد، حتى أن تغيب تحت جنح غمامة متدثرة أو نجمة هاوية لمستقرها البعيد.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد