بقلم : ناصر الظاهري
زمان كانت الناس هنا في سهالة، ويسر، وإيقاع يومهم يمشي بوتيرة متناغمة، لا عجلة ولا استعجال، وإذا تكلم معك شخص بالكاد تسمع صوته إلا إذا تقربت منه، أما السباب والشتائم في الشارع فتكاد تكون معدومة بين الناس، وتسمع كلمات باردة على القلب، إذا سمحت وتفضلت، ومن فضلك وإحسانك، مشكور وما قصرت، لا تكلف عمرك أو إذا ما في عليك كلافة، أنت تأمر على العين وعلى الخشم، فجأة غابت تلك الكلمات، ثم تلاشت، ثم حلّ مكانها بدائل مختلفة، ومصطلحات جديدة، لا تختلف عما كنت تسمعه في شوارع بيروت والقاهرة وعمّان ودمشق حينما تقارن بين شوارعكم المستكينة والمهادنة، وشوارع تلك العواصم الصاخبة بكل شيء. فتجد عذراً لشخص الشارع في مصر، بسبب الازدحام الشديد، ودرجة الضوضاء العالية، وكل الأمور غير الميسرة إلا بالواسطة أو بالدفع، وهي أمور كلها ضاغطة على المواطن المصري، فتجده ينفس عن نفسه إما بالنكتة الساخرة أو بالسب والشتم.
والأمر ينطبق على شوارع بيروت، فبقدر ما كانت راقية، وكلام أناسها السلسبيل، ولهجتهم القريبة من مضغ علكة حلوة، جاءت الحرب الأهلية وقلبت كيان المجتمع، الطيب هاجر، وإفرازات الحرب ظلت تكبر في الشارع، والنَّاس الذين تعودوا على الرخاء والنعيم وحب الحياة، مالت عليهم الحياة، ووطأت بثقلها عليهم، فالشوارع زحمة، ولا نظام سير، ولا مواطن يريد الانضباط بعد «الفلتان» أثناء الحرب، وظهور التمايز الطائفي والاجتماعي، لذا الكل يعتقد أنه الأولى والأحق، والآخر سقط متاع، فسادت الشتائم والعنف اللفظي وإشهار السلاح، وسب الدين والأم والأب وتحقير الآخر.
وهناك شوارع عمّان الغضبى على الدوام، وذات الطبيعة الذكورية الغالبة على المكان، ومجافاة الابتسامة والضحكة المجلجلة، حتى أنها لا تحضر في عمّان مع الرغيف السخن، كل تلك الأمور المتأصلة، والأمور المستحدثة مثل الغلاء الفاحش بدون خدمة تذكر، وعودة المغتربين من أنحاء كثيرة، وقلة العمل، وأن الآخر جحرني بعين، والمناهج الدراسية الصعبة، ومصاريف المدارس الغالية، وطبيعة الآباء والأمهات الذين يريدون لأبنائهم أن يصبح الواحد منهم، دكتوراً أو مهندساً أو معلماً أو محاسباً أو ضابطاً، وأن لا يلتفت الواحد منهم لمهن تحط من قدر العائلة أو القبيلة، كلها تزيد الشوارع سخونة، فيكثر السب، والحلف بالطلاق من أم راكان، ونعت الآخر بالهامل، والاشتباك بالأيدي خاصة في قاع المدينة.
يختلف انفعال الشوارع في دمشق عن بقية العواصم، وينحصر السباب والشتائم على خلافات مالية أو مسألة غش، تبدأ من سائق الأجرة الذي لا يعترف بعداد الحكومة، ولا تنتهي بصراع البائعين الديكة في سوق الحميدية، أن فلان تبعي، وأن هذا السائح المشتري أنا رأيته أولاً، فالمضبوط أن يشتري من محلي، ولا تنتهي بالمكبوت والمسكوت عنه بين المواطن والحكومة والذي يمكن أن تفجره أبسط الأشياء حتى لو جلب لك النادل قهوة سادة، وأنت «بَدّك إياها» مضبوطة! ونكمل...
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد