بقلم : ناصر الظاهري
من قال إن الحرب الباردة وضعت أوزارها، بانتهاء القطبين أو المعسكرين الشرقي والغربي، وإنها غدت تصب عبر المسالك الدبلوماسية، ويمكن تحاشيها بطرق ناعمة، لكن الحقيقة أنها تشظت هي اليوم، وأصبحت معارك صغيرة باردة هنا..
وهناك، عيون على الاستراتيجية، وعيون على الاستثمارات والحرب الاقتصادية، عيون على تجارة الأسلحة، عيون على بيع المعلومات، وغيرها كثير، ربما اختفى المعطف الترابي والنظارة السوداء، ورجل يتلفت في ظلمة الشوارع الممطرة، وحلّ محله رجل أعمال لا يقل عن أشكال السفراء رسمية، وبربطات عنق حريرية، وياقات زرقاء، لكن رغم كل هذه الحداثة، بعض الأمور الشائكة حين تريد أن تجد لها حلاً، فلن تجد مثل الطرق القديمة.
هذا ما يوحي به الحال بين موسكو ولندن، ووقوف الاتحاد الأوروبي بزعامة فرنسا وألمانيا مع حليفتهم السابقة بريطانيا، عضو الاتحاد الأوروبي السابق الذي انسلخت منه مع عدم تسوية نهائية، حتى أن الرئيس الفرنسي «ماكرون» لم يحفل بجناح روسيا في معرض الكتاب في باريس مؤخراً، وحاد عنه، وزار أجنحة أخرى كثيرة، رغم أن روسيا ضيفة الشرف الأولى فيه، وأعلامها تتشابك مع العلم الفرنسي في شارع «الشانزليزيه» كتقليد دبلوماسي راسخ لا تستطيع منه فرنسا فكاكاً في هذا الوقت الذي تعده عصيباً مع موسكو، ودورها في الحرب الدائرة في سوريا وغيرها من الأمور المتشابكة.
لندن ما كادت تخرج من تصفية رجال الأعمال الروس والمستثمرين بقوة في اقتصادها تباعاً، وعلى أرضها، وفي ظروف توحي بحرب الجواسيس، وتصفيات «المافيا»، حتى ظهرت قضية تسميم العميل الروسي السابق «سيرغي سكربيل» وابنته بغاز الأعصاب، الأمر الذي خلق توتراً سياسياً، كاد أن يصل لأزمة دبلوماسية بين العاصمتين اللتين لم تكونا يوماً على وفاق تام ويدوم، وبالأمس وجدت «الأسكتلند يارد» رجل أعمال روسي بارز، «نيكولاي غلاشكوف» مقتولاً في شقته جنوب غربي لندن خنقاً، ليعيد التذكير بمقتل صديقه رجل الأعمال «بوريس بيريزوفسكي» الذي كانت له علاقات ونشاطات سياسية مختلفة، حينما عثر عليه مشنوقاً في حمام منزله في «بروكشاير» عام 2013، كما تعود بالذاكرة عملية تسميم العميل السابق «الكسندر ليتفيننكو» بمادة «البولونيوم المشعة» في عام 2006.
وبالمصادفة، هناك فيلم يعرض حالياً اسمه «طائر الدوري الأحمر Red Sparrow»، وهو يتحدث عن زمن الجاسوسية وحربها الدائرة بين العواصم الكبرى إبان الحرب الباردة، وطريقة تصفية بعضهم بعضاً أو استمالة بعضهم، وإعادة تجنيدهم لصالح أحد المعسكرين، وهو من الأفلام الجميلة للغاية والممتعة، سيناريو وتصويراً وحواراً وتمثيلاً، بغض النظر عن وجهة النظر «الهوليودية» الواضحة، والمتهكمة، والتي تظهر خواء المعسكر الشرقي، وسهولة اختراقه، وصرامته في التعامل مع الإنسان، وأنه لا يدع عملاءه وراءه يعيشون!
نقلا عن الاتحاد