بقلم _ ناصر الظاهري
بقي من حكاية الصورة القديمة من «هايدلبيرغ»، أننا كنا حائرين نحن الفوج السياحي الذي معظمنا لا يقرأ بكفاية قبل زيارته للمدن، بين مرشدة الفوج التي تشبه الخيل الصافنة حيناً، والتي قد تهز في نفوس البعض منا تلك المهارة الفروسية التي لم تكتمل، وذلك العجوز السيرلانكي الذي يفهم أكثر من اللازم، حتى أشفقنا على المسكينة، والتي ترددت بعد ذلك كثيراً قبل أن تدلي بأي معلومة مرتجفة، تخرج من بين شفتيها اللتين هما الوحيدتان من علامات الأنوثة فيها، لأنها كانت أقرب لآمر فوج مظلي، سنتعدى صورة المرشدة السياحية التي تلاصق زوجة الأميركي المتصابية، والتي لا تقرّ في مكان، فبعد السيرلانكي مخزن المعلومات العميقة المتنقل، يقف شاب يبدو حديث نعمة، ويوحي منظره للغرباء، أنه ابن مهاجر يعمل حديثاً تاجراً للسيارات المستعملة في ألمانيا، قميصه «الفرساتشي» المقلد في تايلاند، رغم ألوانه الحارة، وطبيعة القماش الحريري المُصنع، يظهر الرخص عليه، لأنه في غير وقته في ذلك النهار المشمس ببرودة، كذلك النظارة الشمسية المذهبة شغل محال التجزئة الطارئة في الشارع، لم يعجب بتلك الأناقة المربكة إلا الأميركي، حيث أثنى عليها مراراً، أما اللاتيني فإنه لم يحفل، وبدى أنه يغار من ذلك الشاب الذي كان ماهراً في التصوير، ومن ملابسه البراقة، وكثيراً ما كان يصرّ في أذن زوجته: أنه عاطل، وربما يكون من الغجر أساساً، ويده خفيفة، بالرغم أن الشاب أبدى إعجابه بأهل وثقافة أميركا اللاتينية، وتودد لهما بالحديث بالإسبانية التي يحاول جاهداً إتقانها، إلا أن جفلة أدركها من الزوج غير المستقر قليلاً، العائلة اليابانية امتدحت في ذلك الشاب كاميرته اليابانية، وقالوا عنها إنها غالية جداً عليهم، أما الباكستاني، وخاصة زوجته المتحنية، فتحسباه من الهند، وفضلا قفل أي حديث معه، رغم ابتساماته المجانية لهما، بجانبه يقف شاب من النرويج، يشعرك أنه جزء من تلك القلعة القديمة، كواحد من محاربي «الفايكنج»، بوجهه الناري، وشعره الأصهب، وطوله الفارع، بحيث يخجل من يأتي به حظه العاثر مثلي للوقوف بجانبه، ويجعلك تعاف عمرك، وتشفق بأثر رجعي على أمه التي حملته وهناً، وأرضعته حولين كاملين، وتفرح أن حروب اليوم ليست بالفأس القاطعة، ولا السيف البتّار، وإلا لن تطول مقاومتك، ولن تمكث طويلاً أمامه، قبل أن تتجندل كجثة هامدة، بعده شاب وفتاة لم يتزوجا بعد، يمكنك أن تلحظ ذلك لأول وهلة من خلو أصابع الفتاة من أي خاتم عليه القيمة، لكنتهما الأقرب لتفليق الحطب اليابس، تدل ربما أنهما من بلجيكا، هولندا، أو النمسا، والتي أراهن أن علاقتهما لن تستمر طويلاً.. غاب الشخوص وبقيت الصورة.. وبقيت ذكريات نهار جميل ذاك الذي حمل حكاية تلك الصورة القديمة التي أصبحت باهتة من «هايدلبيرغ»!