بقلم : ناصر الظاهري
زرت الأندلس لأول مرة، يافعاً، لكنها كانت تنبرئ لي حلماً متخيلاً، ومن قراءات قادرة أن تسافر بك إليها بعيداً، أو تضعك بين طرقاتها فجأة، وأنت تمشي مرحاً بتلك الملابس المزركشة، وعمامة منسدلة، يتدلى في منتصفها حجر كريم، ربما تتأبط كتاباً، وفي محفظتك ريشة أو قصبة ومحبرة، تدلف لحانوت أحد الورّاقين، وربما سألته عن كتب، وصلت حديثاً من بغداد، وقد تصادف البزّاز مسرعاً، يتلهف وصول قافلة، جالبة حرائر من الصين، ومن دمشق، فتغمزه أن يخبئ لك شيئاً مما عنده، يكتفي بإشارة من يده، تضحك من طبع التجّار، وتقول: سكّير قرطبة، هذا الدرويش الفاني، المتفاني، يفقه في الحياة أكثر من ذاك المهرول، المكتنز الذهب والقناطير المقنطرة، تدسّ في يده قطعة فضية، وتخشى خجلاً النظر لوجهه، وهو يتمتم بالدعاء، يكون نهارك الأندلسي يسير بالخير، وتتبع ظل الخير، فالحياة قادرة أن تمضي دونما أي ضجر، ويمكن أن نسيّرها بلا ضغائن، يلين قلبك لمرأى جاريات يتضاحكن بعد أن أودعن أنفك شيئاً من عطرهن البارد، ومضين يتبخترن في حفيف ثيابهن الساحبة، تستريح من مشيك في ذلك البازار، ومن ضجيج باعته، والمنادين، تستفيء ببرد شجرة سفرجل أو أترنج، الطارحة عناقيدها الخضراء والصفراء والشمسية، تجد غرباء، وطلاب علم قاصدين، وسائلين عن قصر الخليفة، فتدلهم على طريق النهر، وتلك القنطرة الحجرية، الموصلة إلى هناك، تعاود السير، ويلحق بك أجيرك بالخيل عند دكان العوّاد الذي يوزع الضحكات والنوادر من طالع صبحه، هكذا وهنا يجدك من ضيّعك، تنطلقا سوياً بعد أن خالطما الضحك بالسياسة، بحال الناس، وبالصلاة جماعة إلى بستان أحد الأصدقاء، فالغداء والغناء في تلك الرابية، تظللكم عروش العنب، وتسحركم مباسم ريّانات العود، والغصن الرطيب، يأخذكم الوقت بين رنّة وتر، وقصائد مغناة لعاشقي قرطبة ولّادة بنت المستكفي، وابن زيدون حتى تكاد الشمس أن تلون ذاك البستان بلونها الزعفراني، مستأذنة بالمغيب.
حين تخرج من حلم القراءة، والسباحة في الحلم، والتمني التاريخي ذاك، وتطأ قدماك الحافية قرطبة لأول مرة في صيف من صيوف المرحلة الثانوية، تدمع العين، وينقبض القلب، وتشعر بتلك الوحدة الظالمة، تأخذك حواريها، ورائحة الياسمين تتبعك، تثقل القدم، تتوقف عند أبوابها الخشبية، وألوان الجدران البيضاء، المحلاة بالأزرق النيلي، هنا المدرسة، وذاك السوق الكبير، وهناك مسجدها، فتخون بك رُكبك، ولا تقوى على المسير، تجلس بجانب خطاط، ينقش الحرف الأندلسي القديم، فتفرح، لكنه لا يعرف العربية، تتعجب، فلا تفارقه، وحين يهلّ قصته المنحدرة من آخر الموريسكيين، وأن جده السابع عبد الرحمن، وكان من أمراء الطوائف، واليوم هو يطوف قرطبة هائماً، يعرف بيته، ولا يقدر أن يدخله، يجلس بباب المسجد، ولا يصلي فيه، هنا قلت: هذه الأندلس.. خذني من الحلم أو ردّني إليه.