بقلم : ناصر الظاهري
في أحد صيوف لندن، وما أكثر أصيافها، وقبل أن يكون الهاتف النقّال في اليد، وكنا نعتمد على هواتف الفندق وبدالته، تجمعنا أصدقاء قادمين من عواصم أوروبا، فالعُرف من لم يصيّف في لندن، ولم يذق بسرها، ورطبها، لم يعرف الصيف، ولا بشارته، المهم كان لنا صديق «شغل بانكوك»، فطلبنا منه أن يجرب مرة لندن، ولن يندم، خاصة وأننا شلة يجمعنا الشيء الكثير، ولا يفرقنا القليل، فانصاع الصديق، وإن كنا نعرف مقدماً ماذا سيقول أول ما تطأ قدماه عاصمة الضباب: «يا أخي.. لندن غالية، وين فوكيت، وبتايا، وين هذاك الهامور اللي يقدمونه لك يلبط، وإلا البوستر السمين، بصراحة مثل بانكوك ما تلقى، اللي تهمزك، واللي يخدمك، وكله كم من «بات»، ما يسوى عشرة دراهم، لندن.. عنبوه التاكسي ما يواحي له يفتح العداد بعشر روبيات»!
بعد تلك الخِطبَة العصماء التي سيلقيها على مسامعنا كلما سنح له الوقت، ربما يحلف بطلاق لندن، وسيكيل من المسببات والمضجرات ما يجعل منها عجوزاً شمطاء، تشبه ساحرات قصص الأطفال ما قبل النوم.
المهم شرّف صاحبنا، ونظراً لاختلاف الوقت بين آخر دنيا الغرب، وآخر دنيا الشرق، وساعات النوم المضطربة، تركناه ينام ما يكفيه، وتركنا له عنوان مقهى ومشرب، وقلنا له: سنوافيه هناك في الساعة السادسة، وأن لا يدخل قبلنا، لأنه محل محترم، ويتطلب حجزاً مسبقاً، كانت تلك دعابة استقبلنا بها ضيف صيف لندن الجديد، خاصة، وأنه إنسان «على وجهه» فيه الدعابة، ولا يخلو من سذاجة، قبل الموعد وصلنا مختبئين، نناظر لباب المقهى من بعيد، وإذا بصاحبنا يسبقنا، ويُمضّي الوقت في تمشيط رصيف ذلك المقهى، وحين استبطأنا، وقف ملاصقاً للجدار، واضعاً رجلاً على الجدار، ورجلاً يتعكز عليها، وأشعل سيجارته، وذلك المشهد الذي كنا ننتظره، خاصة، وأنه يتمتع بوسامة بدوية، تقرّبه لأن يكون ممثلاً إيطالياً قارب الشهرة، لو أنه اعتنى قليلاً بملابسه، ووضع بدلاً من تلك القمصان التي من السوق المركزي، ملابس كتانية مهلهلة، تليق بالصيف، ظل المارة وبعض مرتادي المقهى يتفحصونه، ومنهم من يقف بجانبه هامّاً بمحادثته، وحين يرون «ربشته، ورفرفة عينيه» يطالعونه بنظرة غريبة، ويدخلون المشرب، وربما رمقه واحد من بعيد بتلك النظرة الضبابية، ظل صاحبنا يطالع ساعته، وبدأ يتأفف، خاصة حينما لم يلمح امرأة - وهي مُنى روحه- تمر من ذلك الرصيف، وأن الداخلين للمشرب يوحون له بممتطي الدراجات النارية بملابسهم الجلدية السوداء، والوشوم، وأقراط الأذن التي لا تليق بمفرد المذكر السالم.. ونكمل غداً