بقلم : ناصر الظاهري
كانت تسرب لنا المعرفة منذ بداية الستينيات من خلال بعثاتها التعليمية، والإعلامية، وكانت تحتضن شبابنا العاملين عندها، حين كان الوقت شدة، ولديهم رخاء، وكانت مجلتها «العربي» مرسالاً لها في الوطن العربي، وكان تلفزيونها يبث تسجيلات من حلقات «سين جيم» للمرحوم «شريف العلمي»، وكان يفرحنا بمسرحيات ومسلسلات بالأبيض والأسود، وكانت رسائل كثيرة تصل مبنى البريد القديم «البريستي» في العين، يومها شاهدت أول طوابعها التي تحمل صور عبدالله السالم، وصور صباح السالم، وصوراً لسفن كويتية كانت سبقتنا للنزول في البحر نحو جهات زرقاء داكنة، كانت الكويت حاضرة باستمرار في الذاكرة الطفولية، وما يتناقله الأهالي عنها، وما يصلنا منها من مجلات وكتب، وما درسناه من مناهجها في صفوفنا الأولى، غير أنها كانت بعيدة في ذاك الوقت عن السفر، وحين عرفنا السفر حلّقت بِنَا الأجنحة لأماكن أبعد من بحرها، وكان عليّ أن أنتظر حتى أبلغ الخامسة والعشرين عاماً، ومع بداية النشر الأدبي، لأدخل الكويت من باب الملتقى القصصي العربي، يومها رأيت أدباء كباراً كنت أقرأ لهم وعنهم، مثل الطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، وعبدالرزاق البصير، وإسماعيل فهد إسماعيل، وليلى العثمان، وعبد العزيز السريّع، وغيرهم.
كانت الزيارة الأولى مدهشة لمدينة كنت أسمع بها وعنها، كنت شغوفاً حينها أن لا تفوتني أية مفردة كنت أعرفها عن الحياة الكويتية، من الأكل إلى الصحافة إلى تفاصيل المدينة، بعدها قلت اكتفيت، وجئتها ثانية بعد عامين، وكانت يومها بوابة لزيارة بغداد، وجئتها ثالثة في عام الفجيعة، وأثناء الاستعداد لتحريرها، زرت أقرب منطقة فيها عند حدودها مع المملكة العربية السعودية، يومها شعرت بغصة المدينة، وبانغراس ذاك الخنجر الصدئ في خاصرتها، وأن هناك دمعتين تحجرتا في مقلتيها؛ واحدة ساخنة على نفسها، وأخرى باردة على غدر الأقارب، وجئتها رابعة بين الفرح والحزن، حزن على ما حصل، وفرح بما حصل، كانت زيارة بعد التحرير بأيام بمعية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، وكانت آخر الرحلات حتى هذا الأسبوع، حيث جئتها سعيداً أحمل شوقي القديم، لأسرد لها خفايا همهمات ذاك الفتى الذي تعلم منها ومن خلالها وبواسطتها الكثير، قاصّاً عليها بعضاً من طقوسه في الفجر والحب والكتابة.
الكويت اليوم.. لا شك أنها مختلفة، لكنها تغيرت، هي الكويت كعادتها غير أن ثمة حزناً دفيناً لا يقرأه غير محب، وغير مُوِد، الكويت قادرة على النهوض والبناء والتسامح، هي تحفظ ما حصل، غير أنها تتجاوز لما هو آت، الكويت.. ليت زرعها دوماً أخضر، ودربها دوماً أخضر، وقلبها يبرد، وتظل مشعّة بضوئها وضيائها كعادتها نحو كل الجهات التي عرفتها يوماً، وحفظت ودها ووصلها أبداً، ومدت يدها بالخير للكل دوماً.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد