ناصر الظاهري
في بداية السكن والاستقرار في فرنسا، وحين كانت اللغة فرخاً صغيراً يحبو، كنت أدخل رأسي في تفاصيل اليوم للعلم بالأشياء، واكتساب المهارات اللغوية أو حتى الأمور الحضارية، خاصة إن كان الإنسان يريد أن يقرأ أدب هذا الشعب وقصصه ورواياته، لذلك كنت أكثر من فعل الخير، وهي طبيعة بشرية ورثتها من الأشياء الجميلة المشتركة التي كنت أرى فيها الأب والأم وهما يفرحان إن قدما شيئاً، فبقيت في الرأس أو جاءت عن طريق الأنزيمات لا أعرف، وهي كذلك صفة حضارية مكتسبة من القراءات والمشاهدات وبناء الشخصية، لكنها كثرت أكثر من اللازم في تلك الزيارات الجميلة التي لا تعرف الزمن ولا الوقت الذي يجري خلفك، اليوم أتحسر عليها!
ولعل الفضول وربما الشغف القصصي زاداها أيضاً، فكنت أفسح دائماً للقادم أمامي أو أحاول أن ألقي عليه التحية والسلام ولو بإيماءة من ضحك العيون أو أساعد عجوزاً على عبور الطريق حتى أقعده على مقعد الحديقة أو أتبرع بتقديم الفكة ممن يطلبها ولا يجدها في صندوق المحل الذي أكون موجوداً فيه بالصدفة، وأحياناً أقف لسماع موسيقّي يعزف في محطة القطار، ولا يتنبه له الكثيرون أو يمرون مسرعين من أمامه، ولا أنسى أن أنقده بعض المال مع تصفيقة خفيفة أو إيماءة من الرأس تدل على الامتنان أو أجالس بعضاً من كبار السن والمتقاعدين من الجزائريين أو المغاربة ممن شاركوا في حروب فرنسا خارج مياهها الإقليمية أو أجلس أنصت لحديث العجائز «اليمينيات»، وهن يكلّن السباب والشتائم على الملونين والعرب في فرنسا والمهاجرين الأفارقة، حتى أحياناً أسمع شتائمهن تكاد تصل إلى كرسيّ الجالس عليه مع أنيسي الكتاب أو الصحيفة، كان من الفرح أن أقدم تذكرة «الـمترو» برحابة صدر إلى امرأة أفريقية مرتبكة بوزنها وأثوابها الملونة، وعمامة رأسها، ولكنتها الأفريقية التي تشبه بهاراتهم الساخنة النافذة أو أخفف من حاجة مغاربية بثيابها البيضاء، ولثام الستر على وجهها، والخوف من الأشياء التي لم تعتدها، أحس وكأنها دائماً مثل الأم التي تبحث عن ولدها الغائب الوحيد، والذي لا تعرف عنوانه، فأشفق عليها وأساعدها للوصول إلى مبتغاها.
كنت أفعل كل تلك الأمور بشيء من الحبور والفرح معتبراً إياها جزءاً من تفاصيل أعشقها من، وفي الشارع، لكن هناك جبروتاً للزمن كيف يقدر أن يسرق منك فضول وبساطة الماضي، وكيف يعمل على تخشبك، ويزيد من تربصك، وشكك في الأشياء والناس، وأنك لم تعد ذلك الإنسان الآخر الذي ربما لا تعرفه اليوم!