بقلم : ناصر الظاهري
أحزنني مشهد أستاذ جامعي مرموق، وهو يحاضر في صالة تكتظ بالطلبة والدارسين والجمهور، وسط صمتهم جميعاً، وتلقيهم صوت المحاضر الوقور، وأفكاره العميقة بشأن المتغيرات المناخية بفعل الإنسان وتطوره الصناعي، وأثرها في دمار الأرض.
كانت لغة الأرقام والرسوم البيانية والإحصائيات تدعم المحاضر، وتضفي على محاضرته الكثير من التشويق، وفِي غمرة انسجامه، واستمتاعه بردة فعل المتلقين، رنّ هاتفه النقال، وتعرفون الأستاذ الأكاديمي كيف يتوتر من التكنولوجيا، وتثير أعصابه رنّات الهاتف التي لا يعرف بالضبط أي الأزرار، توقف ذلك الرنين الذي يعلو أكثر وأكثر، فبحث أولاً في كل جيوب سترته، حتى أخرج الهاتف المزعج، وحين أطل برأسه من الجيب، سقط أرضاً محدثاً ذلك الضجيج غير المستحب، فلا عرف الأستاذ المحترم هل يقعي ليتناوله أم يرمحه برجله مؤقتاً أم يطأطئ هامته فيلتقطه؟ سكت النقال، وتنفس الأستاذ الوقور الصعداء، وواصل حديثه عن الأجرام السماوية، وحركتها المنظمة والتي بمقدار، غير أن الشخص الذي على طرف هاتف الأستاذ يبدو أنه مصرّ، ويريده لأمر ضروري، فزاد الرنين الثاني من ربكة الأستاذ، وازداد تعرقه المفاجئ، فاعتذر.. ثم انحنى والتقط الهاتف، وحاول أن يقرأ رقم أو اسم المتصل من خلف نظارة القراءة التي كان يرتديها، باعد الهاتف عن عينيه، ثم زمّ شفتيه للخلف قليلاً، وأبدى امتعاضه من ذلك المتصل في هذا الوقت الذي كان فيه متجلياً، وربما اعتقد أن احترامه من قبل المتلقين قلّ قليلاً أو شابه بعض من قليل التقدير، وضع الهاتف بعد أن عالجه، واعتقد أنه اهتدى لوضعه على وضعية الصامت، وما إن استعاد طاقته ولملم وضعه وانطلق في الحديث متنقلاً بين المحاذير التي يمكن أن تقلق علماء العصر بشأن ثقب الأوزون، بدأ هاتفه يحبو على سطح الطاولة، ثم زحف حتى كاد أن يصل إلى حافة المنضدة، رمقه الأستاذ الجامعي بتلك النظرة، بعد ما علت بعض ضحكات صبايا لم تكن تلك المحاضرة تهمهن كثيراً، فقلت في نفسي هذه المكالمة آتية ربما من الزوج المصون، فهي الوحيدة التي يمكن أن تنزل هذا الأكاديمي من عليائه، وهي بالتأكيد غاضبة كعادتها من أمر يعده تافهاً في الحياة، ولكن لا يقدر على إقناعها بذلك، خاصة وهي التي لا يشكل لها ثقب الأوزون أي مشكلة، وهي بالتالي لن تتخلى عن «سبراي مثبت الشعر، وعن ملطف الجو المنعش في البيت» ولا يهمها «خريط» زوجها الأكاديمي عن نظرية «السيبرنيطيقا»، فهي متصلة لأن «السباك» أو «الصحي»، لم يأت على موعده، وأن حنفية المطبخ ترشح ماء، وبعض المجاري منغلق مسربها، ويمكن أن تسبب تلفاً «باركيه» الخشب الذي اختارته بعناية قبل سنوات، وتريده بلمعانه لسنوات قادمة، يمكن أيضاً الذي أربك أستاذنا الجامعي اتصال من دائرة المرور، لأنه متوقف بطريقة خاطئة دون أن يدري، أو أنه يعيق قليلاً حركة سير سيارة امرأة يصعب عليها الخروج من مكانها في الموقف المخصص، فبادرت بالاتصال بالشرطة، وربما أيضاً أن يكون المتصل كشأن بعض الهنود الغلطانين دائماً في أرقام الناس، المهم مهما كان المتصل فقد أربكوا أستاذنا الجامعي المحترم!