بقلم : ناصر الظاهري
أمور بسيطة تحدث في يومي وتسعدني، وأظن أن لكل الناس أشياءهم الصغيرة التي تطرق قلوبهم وتمدها بالسعادة، أشياء تدق معلنة تلك الضحكة أو البسمة أو ذاك الرضا الذي يتسرب للداخل، فلا تعرف له معنى إلا أنك الآن بخير.. وبخير أكثر، البعض لا يعرف قيمة هذه الأشياء الصغيرة، ومعناها في حياتنا المثقلة بالكثير، فتفر من يديه صنوف من السعادة، لو قبض عليها لحظتها، لكان القلب يرقص.
من بين هذه الأشياء الصغيرة التي تفرحنا كثيراً، ولا تكلفنا إلا القليل، أحدثكم عن بعض من مفرحات يومي كأن أتلقى رسالة من قارئ، وتكون صادقة، وربما تردد في إرسالها، إما حرجاً من الحب، وما يلقيه على الآخر من ثقل، وإما خجلاً، فكثيرون لا يعرفون كيف يعبرون عن مكنون نفوسهم، فيتوارون خلف حائط الخجل، وإما أنها أصبحت تطرق ذاكرته بشكل يومي، فقرر أن يرسلها، مثل تلك الرسالة من أولئك الناس تفرح يومي، وتجعله ملوناً بألوان قوس قزح، وتحضني على المسير نحو الأجمل والأفضل والأصدق للوطن والنَّاس الطيبين.
ومن بين تلك الأمور الصغيرة أيضاً، والتي حلّقت بحمامة القلب بعيداً، كنت في قرية جبلية في قبرص التركية، ودخلت محلاً يبيع الحرائر، والمشغولات النسائية، وأعجبتني «شالات» حريرية، تستخدمها النساء عندنا، فقررت أن أشتري لسهيلة «ايشارب» حريرياً، بدلاً من الذي تضعه على رأسها، عوضاً عن الشيلة الوسمة، لتبدو أكثر شباباً، ولها روح رياضية يعني، وتحمل «ماركات» عالمية، وهي صناعة صينية وكورية مقلدة، وتشعرني بأنها من «النايلون»، «يعني لو خطّف المدخن تحت أذنها، لبق رأسها كله»، فأعجبني «إيشارب أو فولار» لونه مزيج من البرتقالي والأزرق الملكي على ألوان بهارات ممتزجة بمقدار، فشهقت البائعة الشابة التركية، فسألتها عن السبب، فقالت: إنه المفضل عندي، وكنت وعدت أمي به، ولكنني لا أملك ثمنه، وبالأمس جاءت أخواتي الثلاث لنتشارك فيه لشرائه لأمنا في عيد ميلادها، ثم اختلفنا، لكنه يبدو مكتوباً لك، ولمن ستهديه لها، فضحكت النفس الأمّارة بالحب قبلي، وأنطقتني: «إذاً اشتريته، ولّفيه لي كهدية، لأنني سأعطيه لأمي في عيد ميلادها، وأريد أربع «شالات» أخرى، الأخضر البارد، وذلك الذي عليه أحرف عربية الشفاف لدرجة أنه يمر من الخاتم، وذلك البنفسجي المتماهي مع الزرقة الليلية، وذاك الأخير الذي بلون وحس الدرّاق حين يكتمل نضوجه، ويشرّ منه الماء طفحاً من أول التماسه له مع الشفاه، لفيها جميعها، لأني سأهديها لزوجتي».
عملت البائعة الشابة، والتي تبدو أنها ستتأخر في زواجها الأول بهمة، وشيء من قلبها وعينها في «الإيشارب» الأول، وثمة اعتذار مكنون مخبأ في نفسها، دفعت الفاتورة، وشكرتها، وقبل أن أخرج همست في أذن صاحبة المحل أن هذا «الإيشارب» لأم الفتاة بائعة المحل، لأنها أمي البديلة التي ربتني، وهذا أقل القليل الذي أقدمه لها في عيد ميلادها، وخرجت لا تسعني الدنيا، وأسئلة عصيّة في الحياة تتبعني كظل بارد!