بقلم : ناصر الظاهري
استند صاحبنا على الجدار برجل، وعلى الأرض برجل كالصافنات الجياد، وهو يتأمل المارة، ويناظر ساعته، ونكاد نسمع سبابه من حركة شفتيه التي لم تكن تحمد وتشكر بالتأكيد، واشتعال فتيل سيجارته المتسارع، دخل المشرب اثنان، أحدهما يلبس بنطالاً أحمر، والآخر أخضر فاتحاً، فاضطربت حركة صاحبنا، وكاد يعود لتمشيط الرصيف، تعالت الضحكات المتغنجة التي كان يسربّها باب المقهى كلما فتح.
في البداية، وحينما حدثنا لاحقاً، كان يعتقد أن هذا المشرب خاص بالطلبة، أو تابع لأحد الأندية الإنجليزية التي تهتم بالنشء، والفريق الرديف، لكن مساحيق مبالغ فيها، وعطور على غير عادة الإنجليز، وتلك الطاولات التي تجمع كل واحدة رأسين ليسا بالحلال، رجال وليسوا برجال، خليط متأنث في الملبس، وتلك اللحى التي ليست على رجال ممن يعدهم صاحبنا «إخوان شما»، نَفَر من أصحاب الدراجات النارية، وأصحاب الوشوم في حي «سوهو»، وآسيويون من بحر الفلبين، يأسفون على زمن الإنجليز، أيام «الجنتلمان»، وتلك الرصانة، والتقليد الارستقراطي المحافظ، كانت الشوارب الطويلة، والكثة، والمعتنى بها، والمصفَرّة من التبغ الحار، تملأ وجوه البحارة والمغامرين في المستوطنات البعيدة، أيام كان «اليعري» الإنجليزي عن سبعة، وبلا بندقية، الآن بناطيل سوداء مرصصة، وبُنية نباتية، والشعر رطب من «الجل» يوحي لك الواحد منهم بأنه للتو خارج من حمام خالته، وذاهب مباشرة لمقر عمله في قسم الملابس في محال «هارودوز».
مر الوقت على صاحبنا، وكأنه دهر، وشعر كأنه مرمي على سيف البحر، لائثاً في مكان بلا ملامح، استوقف شخصاً مارّاً، حينما تأكد من سحنته أنه منهوك من ضجر لندن، تحادثا، وأخرج له الورقة، وناظرا لوحة المشرب التي تحمل في بدايتها حرف «G»، وتبادلا هزات الرأس، وانصرف، بقي صاحبنا حائراً، ثم قرر أن يدخل المشرب يقدم رجلاً، ويؤخر الأخرى، ابتسامة الأفريقي الحامضة، والذي يرتدي السواد، أعطت جثته دُغل الغاب، وشعره المحلوق والمُزَيّت صنّفه أنه من خدمة المعبد، وحراسه الليليين، كان المكان عامراً، وهناك وشوشات مثل ارتجافات العصافير المبلولة، ودخان يعبق به المكان، اثنان من المعضلين واقفين يتناجيان، لو شَبَر زند كل واحد منهما لكان كالجذع، ظل يتساءل طيلة بقائه في لندن، عن سر هذه الكتل العضلية، وسر الحلق في الأذن، فيردد متأسفاً: «يا خسارة ذاك اللحم، إلا أمبونه اللحم في الثيران، والسم في الغيلان»، حاول أن يجد له طاولة فقط ليلتقط أنفاسه، وحين جال في المكان، وتبصر في الجالسين، استشعر أن المكان ليس له، فقد كثر الدقّ والوشم، وكثرت أقراط الأذن، فخرج هارباً، ليجدنا نضحك، ممسكين بخواصرنا، فكانت أول ردة فعله، أن قال: «أنتم أصلاً مَخَمّة.. مب رياييل»!